المأزق المتطرف
ترجمة: كامل عويد العامري
في جلسة نقاش بين عدد من المثقفين، فاجأ أحد الأصوات بالقول: "غاري؟ ولكن غاري، بصراحة،
لا يستحق شيئا!" وسرعان ما تحول النقاش إلى واحد من أهم كتاب القرن العشرين في نظر المدافعين عنه، فأسلوبه الرشيق وطريقته في رسم الروح وشخصيته الشخصية الفاتنة والملتزمة بزمانها والمتلاعبة بهوياتها لا تستحق كل هذا الازدراء. ألم يحن الوقت لكي نحرر غاري من أغلال الوسطية الممل، الذي حكم عليه بها بعض القيمين على الأدب خلال حياته؟ من دائرتنا الصغيرة إلى دخوله الأخير في البلياد، انتهت أصوات مؤيديه لتطغى على أصوات أولئك الذين ما زالوا يعتبرون مؤلف "وعد الفجر" و"الحياة أمامك" كاتباً من الدرجة الثانية.
إن عشاق الحرية، مطالبون بقراءة أشهر رواياته، " الليدي لـ" في هذا الزمن الذي يغوي بالتطرف، هي سيدة الحرية. وعلى الرغم من المسافة التي تفصلنا عنها، إلا أن هذه الليدي الأنيقة من المجتمع الإنجليزي الراقي، تمنحنا مفاتيح الحرية الثمينة التي يود الكثير من معاصرينا أن نفقد استخدامها وتذوقها.
إن فكر غاري، الذي يتألق بوضوح في عصرنا هذا حيث تتسارع الخطى نحو أحضان من يدعون تمثيل النظام والشعب والأمة والتضامن، في حين يخرج منه الأكثر هشاشة مخدوعاً، يستيقظ فينا. فهو يتيح لنا رؤية الوجه الحقيقي للأيديولوجية التي وصلت إلى ذروتها، ليخلصنا منها، كما يحرر بطلتها السر الذي تكشف عنه الرواية.
التحرر من العقائديَّة
لا يستغرق الأمر سوى ساعات قليلة للقراءة الشغوفة لهذه الرواية، التي تعتبر واحدة من تلك الجواهر الصغيرة في عالم الأدب التي يمكن قراءتها وتقديرها من زوايا
مختلفة.
ما أن تتصفح هذا الكتاب حتى يستحوذ عليك سحره، بتلك الحبكة المشدودة الحادة، وبفكاهة غاري التي تميز بها– مزيج من السخرية والمرارة – وبذاك الهوس بالجنون الذي يغتسل في مياه الكلاسيكية الباردة، لتترك انطباعاً كبيراً في النفس، وتكشف لك عن تفاصيل لم ترها من قبل. ففي ذلك الزمان، كانت الصور الملتقطة فضية
اللون.
في بضع صفحات ذات فعالية نادرة، نجد كل وضوح رؤية رومان غاري والإرث الذي نقله لنا من قرن إلى آخر. كراهيته الرهيبة، التي تستحق الإشادة مثل كراهية كامو للتطرف، وحبه غير المشروط للحرية، التي يدعونا للنضال من أجلها في كل زمان، تتألق بسطوع
خالص.
كان غاري يكره الأيديولوجيات التبسيطية، وقد جعل من نفسه في روايته "من إجل سغاناريل" التي نُشرت في 1 أكتوبر 1965. وعُدت ردًا على النصوص النظرية للرواية الجديدة (Nouveau Roman) وبيان خاص به، فضلا عن كونه يروي تجارب ومغامرات شخصية في أماكن متنوعة.
رسولاً شجاعاً للرواية وكعلاج للرؤى الأحادية وكمكان يرحب بكل تفرد. في وقت من الأوقات، كانت نزعة غاري الإنسانية مثار سخرية الكثيرين، إذ كانت تتلألأ بأضواء أقل تعقيدًا وإثارة من الأفكار اللامعة في ذلك الوقت. لقد كنا
مخطئين.
لقد كان رومان غاري قبل كل شيء" متفرجًا على العالم بقدر ما كان شغوفًا"، كما تصفه الأستاذة الفخرية الأسطورية في جامعة السوربون ميراي ساكوت وأستاذة الأدب ماري آن أرنو تولوز.
إن حرية خطاب غاري الحازمة، والبعد الرؤيوي في تفكيره والتزاماته "رفيق التحرر، الأوروبي والنسوي والمدافع عن البيئة قبل عصره بكثير"، ورفضه للتقليد والتفكير الجاهز، ووفاءه لموقف قد يصفه البعض اليوم بـ "شجاعة الفوارق الدقيقة" أو "الوسطية المتطرفة" تجعله من تنويري عصرنا.
كان غاري يعلن بنفسه في ملاحظة في "جذور السماء". "أنا أؤمن بالحرية الفردية والتسامح وحقوق الإنسان". هذه المبادئ الأساسية، التي يتغنى بها بـ "بساطتها السيادية"، يتمنى "الدفاع عنها حتى النهاية ضد الاندفاعات الشمولية والقومية والعنصرية والصوفية والعقائدية". مضادات أكثر من
ضرورية.
حتى اليوم، نحن بحاجة إلى أن نحرر أنفسنا من سجون الفكر، ومن الطرق المختصرة المضللة، والدمار الجاهز الذي يتجمد ويذوب مع كل جيل. تقول الليدي لـ. عن ذلك بنفسها بوضوح لا ينكره فيلسوف الحقيقة كارل بوبر" إذا أراد الإنسان أن يكون حرًا حقًا، كان عليه أن يتصرف بحرية مع أفكاره أيضًا، وألا يسمح لنفسه أن ينجرف تمامًا مع المنطق، ولا حتى مع الحقيقة، وأن يترك هامشًا إنسانيًا حول كل شيء، حول كل فكرة. بل ربما كان من الضروري أن يعرف المرء كيف يسمو فوق أفكاره وقناعاته لكي يبقى إنساناً حراً".
الأفكار اليائسة
تأخذنا الرواية، التي تجمع بين الرعب والطرافة، إلى العقار الذي يستضيف هذه الاعترافات. بعيداً كل البعد عن منح سر المصالحة، يفتح الشخص الذي يتلقى الاعترافات عينيه على وسعهما. يكاد يتأثر، يبتلع ريقه، ويحاول أن يكبح تأثير مفاجأته المميت كما يحاول أن يخفي استهجانه. عليه أن يحافظ على موقفه، لكنه يدرك، مع تزايد التفاصيل، أن ما يسمعه ليس مزحة أو عمل خيالي.
تواصل الليدي لـ حديثها. تشعر برغبة عميقة في التحرر. ستنتفض الشابة المُستغلة، المُستعبدة، المُذَلّة، المقادة من الأسرّة إلى صالونات، مدفوعة بنفحة تحرر أقوى من تلك التي يفترض أن تجعل قلب وروح عشيقها ينبضان. إن الحرية تتفوق على كل شيء.
في يوم من الأيام، وفي زقاق مظلم، بينما كان ارمان يعتقد أنه سيلقنها درسًا قاسياً في الإنسانية، انهارت أنيت. وهي التي تحملت العديد من المواقف الصعبة، مثل عمليات السطو والهجمات على الشاحنات، فضلا عن الساعات الطويلة من النقاشات العقيمة والأفكار اليائسة، يسلبها معلمها القاسي، الذي أصبح بارعًا في فن الانحراف، مجوهراتها ليضعها على جسد متسولة مسنّة، في مشهد يعج بالخوف والتهور، تفارق المسكينة الحياة. كان هذا أكثر مما يمكن أن تتحمله أنيت، فتقرر أن تتحرر من كل ذلك.
في الأيام القليلة الأولى، عندما استعادت وعيها، غرقت في بحر من اليأس. لكنها سرعان ما استجمعت قواها وعادت إلى الحياة. وبدافع الغيرة، أدركت أن منافستها ليست امرأة، بل الأيديولوجيا نفسها، تلك السيدة المتسلطة، التي تغوي مدمني السياسة وتتخفى وراء قناع الإنسانية الزائف. وكما يفعل طرطوف، يزين ارمان أفعاله بزخارف النبل والأهداف السامية. لكن ليدي لـ فتحت عينيها أخيرًا وكسرت قيود ارمان هربًا منه ومن وأفكاره الوحشية. قالت في نفسها: "كان ارمان محقًا في شيء واحد على الأقل، الحرية هي أغلى ما نملك. سأحرر نفسي إذن من طاغيتي. وسألقنه درسًا في الإرهاب أنا أيضًا، وسأمنحه ما يكفي من الوقت ليتأمل في ذلك".
اللقاء النهائي
ستنتهي الحكاية كما بدأت. بالاعتراف والارتياح. وتكشفت ليدي لـ، بنبرةٍ فيها شيء من السخرية والتعب، للرجل الأنيق الذي يمسك بذراعها، أنها بعد أن تحررت من قيود ذلك الرجل الشرير، تزوجت الثراء والسفر والجاه، لتلتقيِ به مجددًا بعد سنوات، وهي أرملة ومتزوجة، في حياتها المستقرة. فاشتعلت شرارة العاطفة التي لم تخمدها الثروة ولا المنزلة، من جديد في جسدها وروحها. توسلت إليه أن يترك كل شيء وأن يهرب معها ليعيشا حياة حقيقية أخيرًا. لكنه، كعادته، ظل عنيدًا، فحكم عليهابمصير بائس.
عندما رأت الرجل أسيرًا لأفكاره الانتقامية، محكومًا عليه بحياة بائسة، قررت أن تلعب معه اللعبة نفسها. زاعمة أنها تحميه، حبسته في صندوق مظلم، محكمة إغلاقه. هكذا، حصدت روحه قبل جسده، وأنهت تهديده وحمَت الآخرين من شروره، بعد ستين عامًا، عُثر على هيكله العظمي، يمسك وردة ذابلة، في مشهد يجمع بين السخرية والمأساة. كان هذا مصير رجل كرس حياته للانتقام، لينتهي محبوسًا في قبره الخاص. شهادة على فشل أيديولوجيته.
صعق الرجل حين سمع اعتراف صديقته. تلك المرأة التي كان يعتبرها نموذجاً للأرستقراطية والشرف، ظهرت أمامه في صورة مختلفة تماماً: امرأة من الشارع، إرهابية سابقة، وعاشقة
قاتلة.
دفعتها رغبتها الجامحة إلى الحرية وحاجتها للبقاء، وفي مواجهة العدمية الراديكالية، إلى ارتكاب الجريمة، وكما كتب غاري في كتاب آخر من كتبه العظيمة "وضوح امرأة"، "عليك أن تدنّس سوء الحظ"، فعندما كشفت "الليدي لـ." عن جريمتها، قررت أن تنفجر وكأنها قنبلة دمرت صورتها النقية، بعد لحظات فقط من تلقيها رغبات ملكة إنجلترا.
تجسد ليدي لـ نموذج المرأة الحرة في عالم يسيطر عليه رجال يدعون التحرر، لكنهم في الواقع يمارسون القمع ضد النساء. هذا التناقض يعكس واقعنا المعاصر، حيث تُقيد حرية المرأة باسم المبادئ السامية، وينتهك حقها في
الاختيار.
تُعتبر ليدي لـ رمزاً للنسوية. وهي أيضًا تجسيدا للرغبة الإنسانية في التحرر من الماضي، هذه الرغبة تعكس رغبة رومان غاري الذي يحلم في انتظار أن يكون قادرًا على الهروب من ماضيه، كما تفعل الليدي لـ. مع ارمان، وكما سيفعل هو نفسه باختراع شخصية إميل آجار، الذي يسجن الشخصية الاجتماعية التي أصبح عليها والتي لم يعد بإمكانه الهروب منها على نحو مؤلم. الرواية هي استكشاف عميق للحق في إعادة بناء الذات، ولحرية الإنسان في تصحيح حياته أو إعادة اختراعها، مع الاعتراف بالألم الذي يصاحب هذا التغيير.
جاذبيَّةٌ قاتلة
لقد عاشت بطلتنا بلحمها ودمها واحدة من تلك الاحتيالات الفكرية التي كان لأرون أو ريفيل عبقرية في تعقبها: "كانت الليدي لـ. تدرك أن هناك تناقضًا بين ما كان ارمان يعلِّمها وطريقته في التصرف، بين تلك الحرية المطلقة التي كان يتذرع بها وبين عبوديته هو نفسه
لفكرة ما. بل كان هناك تناقض حتى بين فكرة الحرية المطلقة والتفاني المطلق لتلك الحرية." هذا التناقض نفسه نجده في واقعنا المعاصر كما في مسرحية (العادلون) لكامو، حيث يتردد مجموعة من الاشتراكيين الثوريين، بقيادة ستيبان المستبد، في قتل قائدهم لإعلان ولادة حرية ملطخة
بالدماء.
ولم يكن كامو مختلفًا عندما قال، في عبارة كان غاري يحب تكرارها، "أنا ضد كل من يظن أنه على حق مطلق."
لكن الحقيقة هي هذه. فـسارتر، وهو يحمل فأسًا فكريًا، تجرأ على تبرير القتلى المقدمين قربانًا لأفكاره، وكان له أتباع أكثر بكثير من آرون المتزن والعقلاني. وقد عانى فرانسوا فوريت، وريمون بودون، وسيمون لي الأمر نفسه.
إن لخطب ارمان دينيس صدى مثير للقلق هنا. " إننا نريد أن نجبر الحكام على أن يصبحوا أكثر غباءً وقسوة في دفاعهم عن "النظام". وسيؤدي بهم ذلك في النهاية إلى إلغاء الحريات الوهمية التي يستطيعون حاليًا توفير الرفاهية بها, وعندما تصبح حياة الجماهير التي تزداد قمعًا لا تطاق، وهو أمر لا يمكن أن يستغرق وقتًا طويلاً، ستنتفض أخيرًا في ثورة ضد النظام الرأسمالي
بأكمله.
هدفنا هو إجبار من هم في السلطة على تشديد قبضتهم إلى الحد، الذي يجعلهم هم أنفسهم يثيرون الانتفاضة الشعبية التي ستطيح بهم. [...] وعندما لا يتبقى أي ذرة من الحرية، سينضم الشعب بأكمله إلينا". هل كان عالمنا يعرف
ذلك؟
كم هو صعب، في زمن غاري كما في زمننا، أن يرفع المرء عالياً أفكار الحرية، والسلام، والديمقراطية، وأوروبا. حتى وإن كان محبوسًا في صندوقه، فإن بريق ارمان الجذاب لم ينطفئ. سيظل من الأسهل دائمًا جمع التأييد لصالح أناركي – لا سلطوي - راديكالي، أو ديماغوجي شعبي، أو متطرف متوازن، مقارنة بالدفاع الدقيق عن الاعتدال والثقة والعقلانية. لأن غاري، الذي انخرط مبكرًا في صفوف فرنسا الحرة وتحدى بشدة الأنظمة الشمولية، يعرف هذا الأمر أفضل من غيره.
هذا هو التحدي الفكري المتعطش للحرية والمسؤولية والكرامة الإنسانية، وجمالها المتجدد باستمرار. فبمجرد أن نظن أن الحرية قد تحققت، وأن نغفو في راحة بالنا، ومن ثم ننساها، ونزدريها، وربما ندوس عليها، فإنها تتعرض للهجوم. وعلى العكس من ذلك، عندما يحل الظلام بشكل مأساوي، ويضرب ستاره الحديدي على حياة الناس بقبضة استبدادية، فإنها دائمًا ما تتسلل وتعيد إحياء شعلة المقاومة في أعماق الملاجئ، والكهوف، وأماكن العبادة، أو السجن. هذا هو قدرها الأبدي. ولكن بأي ثمن من الخيانات والوهم والموت؟
إن الحرية هي صراع مستمر في كل لحظة. لقد أيقظت الاعتداءات في عالمنا العديد من المتشككين. إن زعزعة استقرار ديمقراطياتنا بسبب المشاعر المتطرفة في
ازدياد.
لم تكن الحاجة إلى غاري، الذي بدأ مسيرته الأدبية برواية "التعليم الأوروبي" المذهلة، ملحةً أبدًا كما هي الآن.
في مسرح الزمن القصير، تعاني إنسانية الحرية، التي أنجبت وأرشدت العالم نحو آفاق قد تكون غير كاملة، ولكنها أكثر رحمة بلا حدود من أي نموذج اجتماعي آخر، من رؤية بعض ثمارها تستغرق وقتًا أطول في النضج، وأصعب في الإدراك، وتجذب اهتمامًا أقل بكثير من الحلول الراديكالية، والوعود الكاذبة، أو التصريحات المبسطة. والأسوأ من ذلك هو عندما يدعي المزورون أنهم المدافعون عن الحرية.
كراهيَّة الثقافة
إن القارئ المعاصر لرواية "ليدي لـ"، الذي يرى في الإغراء بالتطرف انعكاساً للعنف المتزايد في عالمنا، سيتأثر بالتأكيد بأصداء أفكار غاري العميقة حول استخدام القوة كوسيلة مشروعة للعمل. فالأناركي – اللاسلطوي-المتفجر لا يرى سوى الوحشية والبربرية كأدوات لتحرير الشعب، وهو ما يرد عليه دوق غليندال، الذي كان حامي الليدي لـ في فترة ما، بأنه يحمل بذلك نظرة دونية جداً عن الأشخاص الذي يدعي أنه يريد تحريرهم.
ووفقاً للأرستقراطي المستنير، كان بإمكان هؤلاء الناس أن يرتقوا بطرق أخرى: من خلال الفنون والكتب والتعليم. لم يصدق ارمان دينيس ذلك. فكما يقول الاقتباس الشهير لأحد كبار الشخصيات النازية، عندما يسمع كلمة ثقافة، يشهر مسدسه. إن هذه الرغبة في الوصول بأي وضع إلى نقطة اللاعودة هي السمة المميزة للحاقدين، الذين ينتهكون العقل والمفتونين بمعاداة الفكر، من أجل الكذب على الناس وجذب أصواتهم، حتى لو كان ذلك يعني الوعد بالانتقام والعنف وسفك الدماء.
بالنسبة لارمان، الفنون هي زينة الجلادين (أي أن الفن يستخدم لتجميل أعمال العنف والقمع). وهو يقول: "طالما كان الفنان شريكًا للطبقات الحاكمة، وقد أصبح كذلك أكثر فأكثر". لقد اختطف عازف البيانو، أنطون كراجيفسكي، ثم قائد الأوركسترا، سيرافيني. "فضلا عن ذلك كان لدى ارمان في الواقع كراهية أيديولوجية عميقة للموسيقى والشعر والفنون على نحو عام، أولاً لأنها كانت موجهة للنخب فقط، وثانياً لأن أي بحث عن الجمال بدا له إهانة للشعب".
إن كراهية ارمان للفن والثقافة، يمكن مقارنتها بكراهية المستبدين والأنظمة التوتاليتارية. وإن هذه الكراهية ليست حكراً على المستبدين، بل يمكن أن تكون موجودة أيضاً لدى بعض الأشخاص الذين يدعون الإنسانية، ولكنهم في الواقع يعارضون الفن والثقافة. كما نتعلم من غاري، الذين يتجرعون من علم الاجتماع المزيف، (أي يستخدمون أفكاراً مغلوطة عن المجتمع لتبرير أفعالهم) ويرون في النبذ -الرغبة في عزل الآخرين- وفي الجمال نوعاً من التهديد، فهم يفضلون المساواة على المثل العليا للكرامة الشعبية التي كان جان فيلار يدافع عنها.
الأدب كترياق للعقائد
إن المنطق الظاهري الذي يبدو صحيحًا للوهلة الأولى، لكنه مبني على أساس ضعيف، والنظريات المبنية على تأكيد معتقدات معينة من دون مراعاة الحقائق، هي أفكار خاطئة تنشر عن قصد لإقناع الناس المعذبين لتبني قضية أو فكرة ما. إن اللوم يقع على النخبة، والأقوياء، والأغنياء، والكفار، والمؤمنين. أو كيفية تحول التمرد إلى ثورة. كلما زادت جاذبية الأفكار البسيطة، كلما كان علينا أن نربط أيدينا بسارية الإنسانية والعقل والقيم الإنسانية والتفكير المنطقي، حتى لا نستسلم للإغراءات التي تدعو إلى التطرف والتعصب. هذا هو الغرض من الروايات العظيمة.