د. سمير الخليل
تضعنا مجموعة "حقيبة مثقلة بالهراءات" لكاظم الجماسي إزاء نسق مغاير، وتوّجه سردي باتجاه توظيف الميتاواقعي عبر صياغة "اليغوريا" تعتمد جمالية الثيمة والتأطير الرمزي، ولا تخلو المجموعة من تنويعات ومستويات أخرى، لا سيما استثمار التاريخ، وأسطرة الحكي، والاشتباك مع الواقع بميل احتجاجي نتجت عنه سرديات ترتكز على ثنائيات متضادة كـ "الحلم والكابوس"، و"اليومي والتاريخي" و"الحقيقة والخيال". ويميل القاص إلى سرديات تحتفي بالإنسان والحريّة والقيم في واقع مأزوم وملتبس وعلى الرغم من هيمنة النسق الكابوسي، والنزعة "الكافكوية"، لكنّها تبقى مساحة متوتّرة تؤشر على هيمنة القبح والحروب والاغتراب والاختلال، ووفقاً لهذه المقاربة فإنّ عنوان المجموعة يحيل إلى القبح والاختلال ومفردة الحقيبة تشير إلى مدوّنة التاريخ السرّي للمسكوت عنه والمليء بالهراءات وكل ما يحاصر الإنسان من الارتداد والنكوص وسيادة القيم الكميّة.
تميّزت سرديات الجماسي القصصية بتنوع عوالمها وعمق مضامينها، وتطابق الشكل مع المحتوى، والميل إلى الاختزال والترميز السردي الفاعل، وبراعة انتقاء المفردات ذات الحمولة الشعرية والطاقة الإيحائية، وبذلك حققّت المجموعة نوعاً من الاختلاف عن السائد القصصي، واتجهت إلى سرديات تمزج الواقع بالخيال والحلم بالكابوس، وتتعمّق في التقاط البؤر المتوترة ولم تنزلق إلى الضبابية والسوداوية بقدر ما وظّفت تكنيك النزعة الكابوسية كنوع من تصوير الواقع الذي يعاني القبح والاختلال، وتقديم سرديات هي أقرب إلى الاحتجاج الضمني، فشخصيات المجموعة تبدو معاناتها فادحة ومثقلة بالهراءات والتهميش والاغتراب والقمع والموت والحروب والاستلاب.
وهناك اضفاء مسحة جمالية وخلق توازن تعبيري اتضح جليّاً في ميل السرد إلى النسق الشعري على مستوى الصياغة الكليّة والعناية بتكنيك الانتقالات والتداعيات، ولم يلجأ القاص إلى تقديم الواقع المحتدم بصياغات تقريرية مباشرة، وابتعد عن التعبوية على مستوى الثيمات والشكل الفنّي، حتى تصل بعض النصوص إلى ذروة من التعبير الحاد والميتاواقعية الصادمة كوسيلة للاشتباك والتعبير عن واقع يعاني أساساً من الإرتكاس البنيوي.
ويعي الجماسي تماماً التعاطي مع استثمار الزوايا الحادة، والعوالم الغرائبية، لإيصال منظومته التشفيرية والرمزيّة، وأبطاله مشدودون إلى عوالمهم وذاتهم غير مبالين بارتدادات الواقع، فهم متشبّثون وحقيقيون وانسانيون، وتلك هي جذوة تصادمهم مع الآخر وتداعيات المحيط الاجتماعي، ولذلك تمركزت تلك السرديات حول إدانة القبح وبشاعة الحروب وعنف السلطة والاغتراب.
امتازت قصص المجموعة بالاختزال وتجنّب الفائضيّة بالتركيز على البؤرة السرديّة المركزيّة والتعمّق في تداعياتها وتصاعد أزمتها، وفي بعض النّصوص نلحظ قدرة فنية على استثمار التاريخي والواقعي والميثولوجي بصياغة نسق من الحكي المؤسطر بكلّ أبعاده ودلالاته، أسطرة المكان والشخصية وأسطرة الثيمة، ويمكن الاستدلال على أن القاص في اشتغالاته واستثمار التقنيات والاشتباك مع الزوايا الحادّة والميتاواقعي يلجأ إلى التأطير والترميز المنتج وخلق المجاز السردي، لتقديم الواقع من خلال إعادة الاكتشاف، وتقديم رؤى ومعالجات تتسّم بالمغايرة واللاّتقليدي والابتعاد عن كلّ ما يجعل النصوص القصصية خارج قصديتها وجماليتها، والتمكن من الرصد وتقديم واقع يعاني كثيراً من التناقضات والنكوص الداخلي.
لم تلجأ النصوص التي اشتبكت مع المسار الواقعي والتاريخي إلى كتابة نص تاريخي محض، بل استثمرت التاريخي في السردي للإمساك بالحقيقة وبشكلها المعبّر عن طبيعة الصراع وجوهره، وليس عن مظاهر وتقريرية، وهو نوع من اختزال الثيمات وعدم التمركز حول النسق المروي الخالص، تتجلّى الظواهر الفنية التي تسترعي الانتباه والمعاينة النقدية في التكنيك الاستهلالي للنصوص، فالقصص تبدأ من نقطة متوترّة، ومن وصف لحدث يجذب المتلّقي للتوغل في التفاصيل الأفقية والعمودية للنص، مما يعمّق الوظائف الجمالية والبنائية للاستهلال، فضلاً عن براعة القاص في انتقاء العنوانات الموحية، التي تتضمن نوعاً من التأثير في المضمون والمحتوى، ولم تأتِ إدانة الحرب بشكل مباشر وهتافي، بل اللّجوء إلى المكابدة الإنسانية مثلما هو التعبير عن إدانة مأزومية وتشظي الواقع، الذي تحوّل على المستوى الجمالي إلى تشظيات وتداعيات تجلّت على شكل اشارات وايحاءات داخل النصوص وتحوّلت أحياناً إلى منظومة تشفيريّة على مستوى المفردات والأفكار والرؤى الكلّية.