د. سافرة ناجي
يُرسي الفكر الإنساني في كل مرحلة إنسانيّة مفاهيم متسمة بمعطيات المرحلة، مما يتيح لها الدور في تنظيم الحياة الإنسانيّة على وفق فهم معرفي لماهية العلاقة بين الإنسان والطبيعة في حدها الوجودي، فينتج عنه أداء سلوكي مدرك لعلاقات الإنسان بالإنسان في حدها الوضعي. وبما أن جوهر الوجود هو التغيير، لذا فإنّ حركة الوجود في تغيير مستمر، فكل مرحلة تمهر بحزمة من المفاهيم ذات عدد من المسارات والإجراءات الفكريّة، التي سيكون لها سياق مغاير لمضمون السؤال على وفق الحاجة لإدراك ما يحدث.
ومن المفاهيم الفكريّة التي فرزت بين مرحلتين لهما سمات فكريّة وتاريخيّة وأبرزها مفاهيم التنوير التي انقلبت على كل ما سبقها، وهذا الانقلاب كما هو ثابت جاء استجابة لمتغيرات الثورة الصناعية التي غيّرت من نظم العلاقة مع الطبيعة أولا، ومن ثم طبيعة العلاقات الإنسانية الاقتصادية والاجتماعية ثانيا، التي اكدت على أن الإنسان هو من يملك القدرة على التغيير، وعليه يجب أن يكون له المركزية في ذلك. أسئلة التنوير أخذت حيزاً كبيراً في البحث والتفكير حتى نضجت في عصر النهضة، وأقرت بالتغيير الجذري الذي يقر الإنسان مركز التغيير، وهذا يمثل مقترباً ما بين المسرح ومفاهيم التنوير، لذلك وجد برتولت بريشت ضالته الجماليّة في هذا الفكر الذي يحقق للإنسان عدالة ما بين وجوده كعضو له دوره في المجتمع والسلطة التي تدير شؤون هذا المجتمع. لهذا دعا بريشت في كل بيانته المسرحية، ولا سيما في كتابه "ارجانون الصغير" الذي أكد فيه رفضه لنظرية المسرح الايهاميَّة التي تلعب دوراً سلبيّاً في تعبئة الجمهور نحو القبول بواقعه السلبي الذي يقره مفهوم التطهير النفسي في هذا المسرح. ولهذا السبب الجوهري أصر بريشت على ارساء مفهوم التغيير في مسرحه الجديد، وأن يكون فعل تنبيه لما يحدث، مما يحتم عليه أن يتخذ موقفاً منه. وخلص إلى أهمية أن يأخذ المسرح دوره العضوي في تنظيم علاقات الإنسان الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مؤكداً على أن المسرح مختبر يناقش فيه قضايا الإنسان الذي أفضى إلى تبني تقنية نحن "نمثل/ نعرض الحالة/ نوجه الانظار اليها/ نحلل الظواهر/ نتصدى للمشكلات ونضع
المقترحات الاوليّة". فأصبحت معايير لنظرية المسرح الملحمي، ووضع له معاييره الجمالية ومن اهمها "الايقاظ والتغيير" مصطلحا ومفهوما، والتصدي لكل ما هو سلبي نحو ما هو أفضل وأمثل. وكل هذه المفاهيم التنويرية القارة في فكرة الايقاظ والتحريض التي انجزها بريشت اجرائياً في مسرحه الملحمي وجذرها في "التغريب والتارخة والجست" كانت فضاء فعل بحث وتفكير وتفضيل لدى المسرحي العراقي التي تبناها مخرجو المسرح العراقي. إذ وجدوا فيها ضالتهم الجماليّة، لذلك كان له تأثير واضح في المسرح العراقي، ولا سيما تقنية التأرخة التي اتخذت من التراث الحضاري وسيطاً لإيقاظ الجماهير وفعل تصدٍّ لما تتعرض له البيئة العراقية من ويلات، تماهياً مع رفض بريشت حروب النازية، وصيغ الاستعمار وكل أشكال السلطة الدكتاتورية التي تزدري كرامة الإنسان. وهذا ما فعله ابراهيم جلال عندما عرق مسرحية "السيد بونتيلا وتابعه" إلى مسرحية "البيك والسايق"، ومسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" إلى مسرحية "دائرة الفحم البغدادية"، وجاوره في ذلك عوني كرومي، إذ قدم المسرح الملحمي بصيغته البريشتية الخالصة، وحقق فيه حضوراً لافتاً في مسرحية الإنسان الطيب. لم يقف المسرح العراقي عند حدود النقل أو التعريق للمسرح الملحمي فحسب، بل استثمر معطياته التحريضيَّة مثل "الايقاظ" ليتناص معه في استنكاره أن يكون دور المسرح قائم على فكرة التنويم المغناطيسي والايهام، مما جعل المسرح العراقي فضاءً تطبيقياً لمفاهيم المسرح الملحمي. وهذا ما تجلت به عروض قاسم محمد في استعارة مفهوم التأرخة والتغريب كما في مسرحية "كان يا ما كان". ولأنَّ الايقاظ يضمر التحريض معطىً جمالياً فكان له فعل تأثير وانعكاس واضح على المسرح العراقي، ومنها على سبيل المثال مسرحية يوسف العاني "اني امك يا شاكر" التي خرج الجمهور من العرض المسرحي بتظاهرة ضد جور السلطة وعدوانية الاضطهاد الاستعماري للمواطن العراقي، وكذلك مسرحية "المفتاح" التي وظفت التراث للتحريض والتنبيه إلى ما تقوم به السلطة السياسية من استحواذ على ثروة الشعب.
وقدمت د. عواطف نعيم "دائرة العشق البغدادي" في تناص جديد لمسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" على ضوء متغيرات ما حدث
في العراق بعد 2003. فلذا نقول إن جمالية التنوير كانت ذا فعل استجابة لواقع المجتمع العراقي، بسبب تأثير هذا المسرح الذي كان ذا حضور فاعل وانعكاس بشكل جلي على المسرح العراقي.