محمد غازي الأخرس
قبيل فترة، كلفت بكتابة ورقة نقدية عن مستقبل الثقافة في العراق، فاخترت التطرق لتأثير الثقافة الرقمية المزلزل في حياتنا، نعم، الثقافة الرقمية بدأت تغير كل شيء، مشيعة الاستسهال والتفاهة. لماذا تذكرت هذه الفكرة؟ تذكرتها لأنني ألحظ شيوع ظاهرة جديدة تبدو في الظاهر “ثورية”، بينما هي في جوهرها تسطيحية وتنحو لتسفيه ما توهم هي بأنه من “المقدسات”، ومن الضروري تفكيكه لكشف هشاشته. من هذه “المقدسات” أفكار وخطابات ثقافية حفرت أثرها في عقول الأجيال، وشكلت جزءا من ذاكرتهم المفاهيمية. يحدث الأمر حين يلجأ مدونون إلى مراجعة خطابات راسخة، بطريقة تهديمية فيها قدر كبير من الإيهام والاستسهال. هو تفكيك وهمي يتوجه إلى عقل هو نتاج عصر الثقافة الرقمية، المعتمدة على الاكتفاء بالعناوين واحتقار التخصص.
نقول هنا، إن التنبيه لخطر انفجار الثقافة الشعبية ليس عارضا أبدًا، فقد سبق ظهورها بعقود. نتحدث عن ثقافة شعبية وجدت كمضاد للثقافة الرفيعة، وهذه الثقافة الشعبية يصنعها ويستهلكها شعبيون لا يتوفرون على نصيب وافر من التعليم، ولا يعبؤون بالتخصص. لقد انتعشت هذه الثقافة مع شيوع الرقميات، ولاسيما المستغنية عن القراءة والكتابة كالتيكتوك أو الانستا، يكفي أن يظهر صانع محتوى ليتحدث عن علوم إنسانية ويدحضها بجرة قلم، فيتأثر به شبان مخدوعون، كسالى، لا يكلفون أنفسهم مراجعة ما يسمعون بدقة. قبل التيكتوك والانستا والفيسبوك، في التسعينيات، تنبأ ريتشارد هوغارت بما ستفعله الثقافة الجماهيرية مستقبلاً. توجه الرجل لدراسة برامج الإذاعة والتلفزيون وأفلام السينما وصناعة الكاسيت الشعبي، وقال إن متلقي هذه الثقافة هم الفقراء، ممن “يشكلون علامة شؤم على الأشياء القادمة”، وأضاف أن العاكف على هذه المتع، السلبي الذي يركب حافلة بثلاثة بنسات، ليشاهد فيلما كلفته خمسة ملايين دولار ببطاقة لا تكلفه سوى دولار، إن هذا الشخص ببساطة ليس نشازاً اجتماعياً، بل هو نذير شؤم. نذير على ماذا؟ نذير على عصر الاستسهال والتفاهة القادم، وها نحن نعيشه اليوم، فتأمل.