زهير الجبوري
لعل ما يثير دهشة التلقي في لوحات التشكيلي العراقي حسن ابراهيم، أنه يؤكد حضوره المتواصل في تجربة تجريدية خالصة، وفي اشتغالات مكرسة لما هو حديث ومعاصر في الفن التجريدي المعاصر، واحتفاظه بالنزعة الجمالية التي تحيد مضمونه باتجاه مثير لما نشاهده ونتمعن به عبر أعماله هذه، إنما أخذت على عاتقه إبراز هويته التشكيلية، ومهما كانت موضوعاته وطروحاته وأفكاره التي يكرسها عبر أسلوبه هذا، فقد كانت عبر اندفاع وغواية واضحة، فلم تكن حسية الأشكال ورمانسيتها ملموسة فحسب، بل كانت تشكل العمق المعرفي لكل شكل من أشكال اللوحة الواحدة، فإذا كان التجريد "هو فن يعتمد على أشكال ونماذج مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات أو المرئيات في صورتها الطبيعية والواقعية" فإن الفنان هنا انساق إلى اللعبة الفلسفية لثنائية اللون والشكل/ المضمون، لتأخذ ابعاداً شكلية دقيقة، وكيف يكون تأثيرها في التلقي وانعكاسها على الآخر المتلقي، فالأفكار تتوالد عبر المهارة التي يشتغل عليها، لتتضح أمامنا مدى قدرته في الإمساك بموضوعته هذه التي طرحها عبر تجارب خاصة وأخرى
عامة.
إنَّ أسلوبية التشكيلي حسن ابراهيم وأدائيته تكشفان عن قدرة واسعة في خلق رؤية واسعة لعوالم الأشياء، التي يتناولها كالشخوص والأمكنة والظواهر المعاشة، ويأتي ذلك عبر قوة الاشتغال وتراسلية الحس البصري للمنظور المعمول عليه، ما يعطي الطاقة الكامنة والمعمول عليها في أسلوبية التجريد. وأجزم بأنه فنان شديد الاتقان أو بالأحرى يأخذ "حرفنة" أسلوبه على قدر كبير من التأطير المفاهيمي لفن التجريد ذاته، ما يعطي استمراره في تقديم اعماله التي قدمها وكانت واضحة لدى المتلقي، كما أن الغور بعمق الثيمة المتناولة تأخذ البعد الجمالي وقصدية التوغل عبر تحويل الأشياء الى مكانة تجلي، أو مثلما كتب عن تجربته الناقد عادل كامل بأنَّ "تحويل الأشياء يضعنا في صميم البنية التشكيلية، وهي البنية الجمالية المعبرة عن انتماء الروح التعبيرية التجريدية، مثلما هي اعترافات بحيوية المبدأ الصوفي عند الفنان الشرقي"، فالعمق فيه قوة روحية متجلية، قوة تحيل العين إلى استكشاف ما هو متراص في بنيات اللوحة الواحدة، فأحيانا نشاهد عمق جدار تتراكب فيه شفرات متداخلة مع بعضها كالحروف والزغارف والمنقوشات والماركات التجارية، يناظرها الوجوه وهي تتداخل معها، ولم تكن الجدران التي يستدعيها في لوحاته مجرد ذاكرة فحسب، إنما هي أثر له مكموناته الجمالية، ما أخذ على عاتقه كيفية توظيفها لتصبح شكلا له خصوصيته التجريدية.
وتحيلنا لوحاته إلى قراءتها قراءة تحليلية للشكل واللون، بمعنى نلمس ما يمكن الأخذ به للشكل التجريدي لكائن بشري تتراكم فيه علامات المكان ذاته، وهي لعبة تشكيلية ملفتة للنظر تأخذ على عاتقها كيفية تمكين الشكل التجريدي بتقديمه بهذا المنظور الذي يغري تأويلية المضمون، بل تعددت أيضا في الكائنات الحيوانية الأخرى، وللدلالة على ذلك نستخلص أن كل واحدة من هذا الأعمال تعطي إشارة إلى بيئية الموضوع المطروح كالمكان الشعبي أو المكان الريفي مع ما فيها من موروثات تشكل روح المكان أو بالأحرى هي علامات مؤشرة للانتماء والتعايش، وما إلى ذلك من اشتغالات غاية
الأهمية.
الفنان التشكيلي حسن ابراهيم يمضي قدما في تقديم تجربته التجريدية، وهو يدرك أن الاشتغال في هذه المنطقة إنما تعطي معاصرة الفن التشكيلي على مستوى العالم ككل، لأن غاية الفن بعامته هو الغور في مناطق غير مألوفة، ما جاءت به الفنون الأخرى على تقديم المهارات الأدائية بشيء من اللعب الأسلوبي، ونلمس أيضا ثقافة التعامل مع الفن التجريدي بطرح الأفكار والأسلوب وسياقية استخدام الألوان، والمنظور وأبعاده، ينطوي على وعي وإدراك في التعامل مع العلامات المستخدمة بوصفها الانتماء إلى الحياة والواقع الذي نعيشه، وهنا تكمن فاعلية التقصي والعمل على تقديم التجربة بالشكل الذي شاهدناه وتمعنا به وأخذنا نحلله.