د.حيدر علي الأسدي
يعد المسرح أهم فنون التعبير التي اكتشفها النتاج البشري، لأنه لغة تتعلق بالاتصال الحسي والبصري، وفيه من الجمالية والخيال ما يسمو بعملية التلقي والتفاعل. لذا منذ مظاهره الأولى كان هذا الفن يتصل بالواقع الإنساني والاجتماعي للفرد، ويتفاعل مع هذا الواقع ويقدم الحلول لمحاكاة حقيقية (للانسان/ إزاء محيطه) عبر معادلة التواصل الفكري والجمالي.لذا أخذ المسرح ناصبة التأثير عبر هذه القيمة الوظيفية، التي انتجها في منظومة العلاقات الجمالية والثقافية المترسخة في رؤى هذا الفن وجزئياته.
فقد نسمع عن مسرح ينتفض ضد الحرب ودعاتها، وآخر يشعل فتيل المقاومة، وغيره يحرض الجماهير على الخروج بمسيرات احتجاج ضد الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، ومسرح يثقف الجمهور ضد الطغاة والحكام الفاسدين.
وهكذا ينبع المسرح من صميم أزمات المجتمع والواقع، ويعيد انتاج معنى جديد يقدم للفرد لكي يتعامل مع تلك المشكلات، لذا يعتقد الفيلسوف الالماني فيلهلم فريدريش هيغل أن الفن الحقيقي هو الفن الحر المرتبط بالقيم الإنسانية، والذي لا تربطه غايات نفعية ولا يخضع لثقافة الاستهلاك والتسطيح المبتذل، ويتصل هذا الرأي بطروحات "بريخت وسارتر وبسكاتور" وغيرهم.
إن المقولات المأثورة مثل "الدنيا مسرح كبير" و" أعطني خبزًا ومسرحًا.. أعطك شعبًا مثقّفًا" تمثل جوهر الصلة بين المسرح وتأثيراته على الواقع المعاش، إذ يرى الباحث السوسيولوجي "جان دوفينينو" إن هناك تشابكا كبيراً بين الحياة الاجتماعية وممارسة المسرح، وأن ثمة صلة بين الشيء الجمالي وبين الحياة الاجتماعية. أما الفرنسي "جان فيلار"، فعد المسرح شأنا عاماً يندرج ضمن الضمانات، التي يجب أن توفرها الدولة للمواطنين مثل الخبز والماء والخدمات الصحية والتعليمية، وجاوب المسرحي فيكتور هيجو عن سؤال جدلي مهم "لماذا المسرح؟" في رسالته التي كتبها بمناسبة اليوم العالمي للمسرح 2006 وقال فيها إن "المسرح يحرك، ينير، يثير القلق، يزعج، يسمو بالروح، يكشف، يتحدى، ويخرج عن التقاليد، إنه حوار مشترك مع المجتمع، المسرح هو أول فن يجابه الخواء والأشباح والصمت، ليضع الكلمات والحرية والنوروفورة الحياة، إنه تواصل سحري يتبادل فيه الناس بالأخذ والعطاء ما يعمل على تغييرهم".
إن برتوولد بريخت أكثر الذين سعوا إلى أحداث التغيير عبر الاصطفاف مع الرؤية الاشتراكية ونقد الأنظمة النازية واستئساد الرأسمالية المهلكة، فسلط الضوء على تلك السلبيات في مسرحياته وساهم بخلق وعي كبير لدى الجماهير الألمانية والأوربية، وبخاصة خلال أزمات الكساد والحروب والبطالة، وفي القدر نفسه فعل "بسكاتور" عبر مسرحه السياسي ومسرح الطبقة العمالية، والاهتمام بطبقة البرولتيارية وأهمية مناهضتها للسلطات الاستبدادية الفاسدة. ولا أحد ينكر التأثير الكبير، الذي أحدثه المسرحي هنريك ابسن في أوروبا والنرويج من خلال نصه المسرحي الأشهر "بيت الدمية"، فرؤية ابسن ضمن نسق فكرته المسرحية اطاحت بالقوانين السابقة التي تحرم المرأة من أبسط حقوقها، وكما يقول مارتن اسلن في كتابه "تشريح الدراما" بان ابسن وشو قد اسهموا إسهاماً عظيماً في تغيرات اجتماعية وسياسية.
ويوضح رونالد جراي في كتابه الموسوم "بريخت.. رجل المسرح" التأثيرات المسرحية على الواقع، فيذكر قصة عن الكاتب المسرحي جون جولزورثى، موضحاً "كان جون جولزويرثي له تأثير مباشر على حركة الإصلاح اكثر من أي رجل مسرح آخر فمسرحيته "العدالة"، التي كتبت كجزء من حملته ضد الممارسة الجارية للحكم على كل المتهمين بالسجن الانفرادي لمدة ثلاثة شهور كبداية كانت ناجحة مباشرة في المسرح، وفي الحياة الواقعية كتبت ونستون تشرشل وزير الداخلية حينذاك إلى جولزويرثي بعد مراسلات طويلة، ليقول جزئيا نتيجة لرؤيته المسرحية فقد قرر أن يخفض مدة الحبس الانفرادي من ثلاثة شهور إلى شهر واحد".
وأما مسرحية "كاثي تعود الى المنزل" لجيريمي ساند فورد فقد نتج عنها تحسين أوضاع المساكن بالنسبة للمتزوجين، الذين يعانون من أزمة السكن عبر تغيرات في إجراءات قانونية. ولا يمكن أن نمر من دون الإشارة إلى هزليات الكاتب داريو فو التي قدمها لمناصرة الفقراء والطبقات المسحوقة في إيطاليا وأوروبا، فأصبح أحد أهم رموز المسرح الاحتجاجي الغاضب، إذ تناولت مسرحياته قضايا العمال والطبقات المسحوقة ومناوئة السلطات الفاسدة، ومنع من دخول بلدان عدة بينها الولايات المتحدة بسبب توجهه الاشتراكي وانتقاداته لأمريكا، ومن أبرز مسرحياته المؤثرة "موت فوضوي صدفة" التي تناولت حدثاً حقيقيا آنذاك.
إن للمسرح دوراً مهماً في حل العديد من المشكلات وإحداث التغيرات المجتمعية والسياسية، وحتى الاقتصادية لما له من قوة تأثير كبيرة على الجماهير ويقظتهم ووعيهم السياسي والاجتماعي إزاء ما يجري من متغيرات متسارعة في حياتنا اليوم، فنحن نبحث عن مسرح من هذا النوع، أو أن المسرح الذي ننشده اليوم كما يقول عصام أبو القاسم في كتابه "أي دور للمسرح العربي في اللحظة الراهنة" هو الذي: يعمل ضد النسيان، ضد السطحية، ضد الملل، مسرح الملاحظة والتساؤل والرغبة في التغيير، المسرح الذي نطمح اليه هو اليه يعمل على نقل المعرفة والتجربة من خلال الحوار بوصفه أداة لطرح قضايا المجتمع. وهنا يقع الدور على المؤسسة الفنية والحكومية في التعاطي مع هذه القيمة للمسرح وكيفية تطوير آلياته وإعطائه الأهمية، بحيث يكون فاعلا ومؤثرا في توعية الجماهير، وإلفات نظر المؤسسات الأخرى، التي تحتاج الى تغيير وإصلاح بين الفينة
والأخرى.