ياسين طه حافظ
يوماً، وفي ساعة بدت لي فارغة تماماً، زاغ بصري إلى ورقة بيضاء على المكتب، فوقها قلم، كأنما ينتظران بدء عمل.
لكني بدلاً من أرفع القلم وأبدأ، بقيت ساكتاً أمام الورقة، والورقة أمامي والقلم بين أصابعي ينتظر شيئاً.
ثم، ربما استفزتني الورقة، سألت نفسي، هذه الصافية الساكنة التي تنتظر، من يدري ما ستكون حمولتها؟ أو من يدري ما يكون مصيرها؟ قد تُشحن ببضاعة فاسدة، أو ثمينة، أو تمزقها مخالب أو يد غاضبة أو تُلقى بالنار فهي لهْبةٌ ورماد. لا أحد يدري، لا هي ولا أنا ولا غيرنا يدري ما ستحمله أو ما سيكون مصيرها. هي الآن ساكنة، خالية تماماً وتنتظر.
لكن أيها الشيخ المحني على المنضدة، والذي أمضى وقتاً من آخر عمره يحدّق في ورقة بيضاء، لماذا لا تسأل نفسك عما تحمل وما هي أنواع و"شكول" بضاعتها، ولماذا لا تسأل نفسك عما ستحمل مما يأتي، وماذا سيتساقط منك، وما سيقع لك، بشرى أو سقْطة أو عطل، أو سيكون انتهاء في غير أوانه لم تتوقعه، أو تعلم، ولو بإشارة، أنه سيكون كذلك؟ أيحق لي بعد مضي كل هذه السنوات، وتقادم مفاصل جسدي وأجهزته، وأنا ما زلت محملاً بأكثر مما استطيع فأنوء بما لم أعد احتاج له أو ما لا أريد تذكره، أي سوء لصقَ بجلدي ودماغي وأنا أعبر الحياة... أيحق لي أن أسال كيف تكومت هذه الحمولة فيَّ وهذه الاثار والغضون عليّ والأدواء، وهل كنت أنا من قرّر ذلك واختار أم كنت ورقة بيضاء حُمِّلتْ بما لا تدري به وتتوقعه، فهي مريحة ممتعة لمن يرى أو هي بشعة، شائنة، حدَّ ما يجعلها تلقى أو تُهمل، بُسَرّ بها او يُستَفزّ منها فتُلقى مِزَقاً في النار؟ ماذا بعد ؟ فعلتُ خيراً وفزتُ ثم أضعت كل شيء أو فعلت خطأ اسقط بهجتي فابتعدت، ما الذي استطيع الآن بعد اكتمال ذلك؟ لا يوجد زرُّ إعادةٍ ألمسُه بأناملي فتعود القادمات إلى حيث جاءت، واغتسل مما علق فأنا من جديد صاف وسأصنع كما شئت نفسي.
لكن الحياة الحقيقية، الحياة عيشاً وتجربةً، ليست أمنية ولا لعبة. الحياة هي ما تمّ للورقة، ما صيّرني بحمولتي من الاشتات والمختلفات. أصارحكم بعض الجروح لا تشفى وبعض المخزيات لا تغيب وبعض، أو كل الأماني تظل وحتى نموت أماني، ثم هو الكلام الحزين من أجل ذلك وبسبب ذاك.
نعم، ثمة ما يسرك أو يسرني أو يحزنك ويحزنني أكثر، ذلك أن الخزين، أن الحمولة التي أحملها، أولاً، لا يراها أحد. وثانياً لا تشبه ما يحمله غيري. وكل منا يحمل حمولته صامتاً ويسير.
بعض يزدهي بما يحمل، بما يكتنز، ويخفي ما رأى وحدّث أو عاشر، أو هو عاش مع هذا وذاك وهذا المعنيّ به وذاك الذي حقق له غاية أو أرتكب بحقه ما لا يسرّ. حقٌ لهذا الفخر أو لهذا الرضا. لكن ليس حديثنا عما يُرضي حسب، عما يرضيك أو يرضي غيرك. الحديث عن الأحوال كلها، عمن تكره أو كرهتَ، تحب أو أحببت، عما بادرت له وفزت وعما سهوتَ فعَثرت. نتحدث عن الأحوال كلها، عن حمولتك وحمولتي بأنواعها. أتحدث بإيجاز المَلول عما اخطأت وعما لم أُحسن القيام به، وما سلف من مؤسف ندمتُ عليه. الحديث أيضاً عن الفرص التي ضاعت والخطأ الذي استمر معك، وعن السوء الذي بقيتَ تمارسه وتهمل الجمال الذي يشيرُ لك، فتهمله وتمضي. الحديث بإيجاز شديد عما لا نستطيع بعد إعادته!
ونحن ساعة العزلة الصامتة، ساعة الورقة البيضاء، لا نشعر بما كان يبهج أو ما ظنناه فخراً أو يملؤنا بالمتعة أو بالفرح. في ساعة العزلة الصامتة، ساعة الورقة البيضاء، قد نضيق ذرعاً بحمولتنا ونودّ لو أنا طرحناها في أول فراغ يأتي. ولو أننا اغتسلنا من كل شيء فقط لتزول خطايانا. نتمنى لو اننا مَنحنا حباً اكثر وابهجنا ناساً وأرضينا. لو أنا لم نسئ أبداً لأحد ولا انتقمنا بشراسة، ولا كتبنا أو قلنا سفهاً وبلا معنى، وقلت أنا في صلاتي الهادئة وفي لحظات تأملي: يا أخطاء الماضي لو استطعت مروراً من طريق ثان فلا رأيتك ولا انتسبتِ إليّ.
هكذا هي دائماً أحاديث بعد التجربة وأحاديث آخر العمر. ولكن يا هذا، أيها الشيخ الذي كنت تحدثنا عن بياض الورقة وسكينتها، لستَ من يصنع نفسك ولستَ وحدك الذي حشدَ الأحداث والأخبار فيك، ولستَ وحدك من استكمل التجربة. قل ما شئت، لن تعود ثانية نقياً وأبيض كالورقة.