رقصة الألواح.. سرديَّةٌ شعريَّةٌ عراقيَّة
جمال العتابي
تزداد لغة عادل مردان في "رقصة الألواح" تركيزاً وإيجازاً، قصيدته تحمل تأويلات عديدة، وشعره محاط بغلالة شفافة من الرموز والأسرار، يبتعد عن الانفعال الكاذب، تكتسب قصائده مسحة من الحزن والزهد والمرارة، أنه في أعماقه إنسان وحيد، متواضع، يحب الحقيقة أكثر مما يحب الجمال أو يثق به.
يخفي احتجاجه على نظام العالم من وراء لغة يغلب عليها الحزن، هو في النهاية حزن يوجهه العقل الناصع والوعي الدقيق.
[لا تهمل حزنك لا تهمل ترابك - كن وهاجاً تتقن السومرية].. ماذا يبقى من العاطفة الأليمة الخالدة في بلد منهار خرّبه الغزاة وعتاة الحكام؟ ماذا يصنع بالحمامة الذهبية التي ترفرف بين ضلوعه؟ بينما تضج الألواح بأسفار الرؤيا - أرض الإلوهة تماثيل مقطوعة الأذرع.
الفكرة عنده هي التي تقدّم، وكل شعر خلا من مضمون فكري، يبتعد بالنتيجة عن المضمون الانساني العميق، الواقع إن عالمه الشعري، عالم فسيح وأفقه الشعري أوسع بكثير، وأسلوبه في الصنعة الشعرية أغنى وأكثر تعقيداً، أعني تجربته محور وجوده وحياته: [يحلم (عادل) لگش].
الشعر عنده ينطلق من منطقتين متباينتين من روح الشاعر: صور تعبّر عن المفاهيم، لها دلالاتها، لا بد أن تكون عقلية منطقية، وأخرى تنطلق من الالهام الخفي.. من الخيال، لها قيمة عاطفية في المكان الاول، والشعر يحتاج إلى هذين النوعين من الصور.
في وسع الشاعر أن يربط بينهما، أو يفصل، أو يمزقها، أو يتلاعب بها، أو يلوّنها ما شاء له من خيال أن يفعل، بإمكانه أن يشحنها بقيم شعورية تصل إلى انارة الروح والانفعال في النفس، بينما لا تفصح القصيدة عن مكنونها الداخلي، بل تظل خفية سارية في ثنايا العمل الشعري، أما تلك التي تشكل روح الشاعر ومصدر إلهامه فهي التي يمكن وصفها بـ "دم" العمل الشعري ولحمه.
ليس صوت الفكر هو السائد في القصيدة، بل هو صوت الحياة، وليست الحياة هي التي تمنح القصيدة بناءها الخارجي، إنما هو الفكر الانساني، انما هي معادلة صعبة يطرحها الشاعر، ثنائية معقدة للطاقة الانفعالية المخزونة في العبارة، قيمتها ليست في قدرتها على التعبير عن اللون، والصورة والأداء الموسيقي الراقص، انما في دلالتها الإنسانية.
يضع الشاعر بين يدي قارئه مفاتيح كثيرة لعالمه، إلا أن أبواباً بذاتها تظل مستعصية على هذه المفاتيح. ويسعى إلى تجريد الألفاظ الزائدة، حتى يصبح الشعر "عارياً"، مكثفاً، موحياً لا كلمة واحدة تزيد عن حاجة القصيدة مهما قيل في تبريرها. السردية مكتوبة بلغة حمّلها كل أثقاله النفسية، دلالة تحد يصدم بها الاعتياد الجمالي لدى القارئ أن يرجّه، بكل ما يحتمل من مغامرة في القاموس الشعري. ليفصح في النهاية أن النصوص تنتمي إلى حضارة العراق امتزجت في بوتقة القصيدة، التي توزعت بين خمسة وثلاثين مقطعاً من دون عنوان.
النصوص تتماثل مع الالواح السومرية، ليست عراقية الهوى، انما هي في جوهرها، ومحتواها ورموزها عراقية في الصميم، تتنفس هواء الرافدين، اكتست بطمى انهاره، حتى يكاد القارئ أن يتوصل إلى أن كل مقطع كتب بلغة مسمارية، تفصح جميعاً عن مشهدية لمدائن معتمات، تحف بها الأهوار والسهوب والصحارى، إذ لا مرح وسعادة، إنما هناك طغيان، وحروب وحصار، وضحايا، قوة وجبروت، سنوات تنزف ألماً، والأرض يسكنها غول.
يبتعد الشاعر عن القناع، ليذهب إلى لغة عالية تكتظ بالرموز الملحمية والأسطورية، تحمل آراءه ومواقفه من الوجود، تجيز البوح في الكشف عن رؤيته في ثنائيات لا نهاية لها: [مولاتي الملكة من خادمك المطيع/ رئيس المنجمين الأكبر/ لم أتوصل بعد لكتابة الأعالي/ اختلطت علي الرؤى/ جسدي هنا وقلبي في مرصد أربيل].
الحياة والموت والضياع، الأمل واليأس، الحلم والواقع، الظلام والنور، الشجاعة والتخاذل، الهزيمة والانتصار، المكان والزمان. النكسات والشموخ، الخلق والولادة. فما دامت الحياة نابضة على الأرض، يبقى المضمون المصرّح به هو الصوت الأقوى للشاعر الحاضر في النص.
في رقصة الألواح مناجاة نفسية، أو ما يصطلح عليه بـ "المونولوج الدرامي"، إذ يطلّ البطل نفسه، فالمتحدث هنا ذات الشاعر، في حكمة صاحبة الحانة سيدوري تتحدث عن الخيبة والموعظة.
يستعيد مجد الإله أنليل مجدداً، وإنكي أحد أهم الآلهة في الاساطير السومرية، إله الشفاء والدواء وحامي الحضارة البشرية، اتجاه الشاعر نحو الاسطورة، انما يعود لطبيعة الحياة الإنسانية الجديدة من ظروف دعته إلى استخدامها في نتاجه الشعري بصيغ جديدة مقاربة لروح العصر، لغايات عديدة منها: تحقيق الذات، تقديم البديل لعالم اليوم المتناقض، رفض قوانين القهر والاستلاب.
مردان يعالج التاريخ معالجة أسطورية لا حقائق وأحداث، الاسطورة الوعي الطفولي الأول للإنسان، ليست مهمته اعادة سرد الحادثة التاريخية، بل عليه أن يقدم فهمه الخاص ورؤيته الفنية، ليعبر عن سعة الرؤية والقدرة على الخلق والابتكار، يتجاوز ذلك إلى عالم الخيال، إذ يخرج الشخصية عن إطارها المحدود الدلالة إلى إطار رمزي شمولي. في بناء فني محكم لإيصال أفكاره، ومن خلال الأساطير يضيف عناصر ومقومات جمالية إلى النص الشعري، يتمكن "هو" الشاعر من الاندماج مع الدلالة الرمزية للتعبير عن تجربته المعاصرة.
بعض الشعراء من يقحم الاسطورة اقحاماً من دون صلة في السياق والمضمون والشكل، اما تلك التي تأتي ضمن التناص والتماهي في بناء القصيدة، فإنها تأتي بالموهبة الشعرية والخيال الجامح، بلغة مشدودة بإحكام، وبناء معماري لخلق حالة التوازن في المستويات حتى بالمقطع الواحد. هذه النجوى الروحية بين الشاعر واينانا، آلهة الخصب والحب، اينانا الأم، لوحة جديدة في سومر الشعرية: [أيها الحاضر كن مشعاً بأساطيرك] سيدوري آلهة الخمر البابلية، في ملحمة گلكامش، انليل اله الهواء والرياح السومري، ترميز لما اصاب العراق، الريح تعصف بالبيوت والحواضر، لوحات جديدة لنجوى روحية بين الشاعر واينانا، آلهة الخصب والحب، اينانا الأم. [بعد قرون من الحفظ يتمتع السومري بعهود العوالم السبعة/ تلكم بوابات الحدوس العاب الانوناكي تخلب الغزاة].
انانونكي الروح الهائمة في السماء، الآلهة الفضائية المجنحة، الاكتشاف السومري المذهل منذ آلاف السنين، الأسطورة تقول إن المخلوقات الفضائية الاتصال الأول الذي أسهم في مساعدة البشر لبناء الحضارة تبدو حقيقة في منطق ذاك العصر.
[منذ نعومة أظفاره، دمقي يقرأ ملحمة الخليقة، القدر أراه على وجهك، لا عليك ستصبح وزيراً تتلمض المعرفة/ امض قدماً ايها البهي يا من وسعت مكتبة القصر].
ما الذي يدعو القارئ أن يتساءل لأول وهلة عن مغزى الرقص في القصيدة؟ لماذا ترقص ألواح عادل مردان؟ لا شك أنه هنا معادل لتناثر الآثار، التي سرقت واستقرت في متاحف العالم، بعد أن استباح الطاغوت الوطن، راحت تبكي حين تحول الوطن إلى سلعة تباع في المزاد.
الشاعر يستحث خطاه نحو تاريخ بلاده الروحي والحسي، ليقدم قصة شعرية سردية ممتزجة بفن الأساطير، يدوّنها مخيالياً تارة، متوترة وتشكيلية تارة أخرى، يراقب ثم يعود إلى البراءة الأولى، إلى الفراغ المطلق حيث يستطيع آنذاك فقط أن يمارس حريته العظيمة، لكنه لن يسلم مهما كان صافياً وحراً من سيطرة الوعي، من دخول العالم الذي يبدو مرعباً ساحقاً ليس إلا صورة نحن بنيناها! أخيراً قال عادل مردان قصيدته ومضى.