الفلسفة من السلطة إلى المجتمع

ثقافة 2024/12/09
...

  حازم رعد

الخطاب الفلسفي ليس خطاباً وعظياً أو إرشادياً حتى يتم توجيهه لعامة الناس بشكل مكثف ومباشر، مركزين الاهتمام على هذه المسؤولية وعدها المطلب الأساسي للفلسفة - صحيح أن الثقافة الفلسفية مطلوبة للعامة- إذ يمتاز هذا الخطاب عما سواه بتعقيد مصطلحاته وتكثف مفاهيمه الحاكية عن الواقع، وكذلك بالسعة الكبيرة لتاريخ هذا الخطاب مما يجعل دراسته واستيعابه متعذراً على كل إنسان، ولكن خطاب الفلسفة يوجه إلى السلطة فهي المعني بشكل مباشر بالإنصات لهذا الخطاب واستكناه معانيه ودلالاته والانتفاع منه في صياغة برامجها الحكومية في مجالات مختلفة "تربوية وتعليمية وسياسية وثقافية وأمنية وأخلاقية" وغيرها. فهو بالنسبة إليها خطاب اجرائي مسؤول يترجم إلى قوانين وتوجيهات عامة تأخذ مداها في الناس عبر القنوات المؤسسية والجهاز الايديولوجي، ولهذا أعتقد أنه جزافاً أننا نكرس مجهود فلسفي كبير ونتوجه به للمجتمع ولعامة الناس. فهذا النوع من الخطاب نخبوي ومعقد وخطير، نخبوي لأن جماعة محدودة من الناس تستوعب هذه الأفكار وبمقدورها استيعابها وهضمها، وهو خطاب معقد بسبب اللغة الفلسفية الصعبة التي تصاغ بها المفاهيم والأفكار الفلسفية. وهذا ما يشكل صعوبة فلسفية وحائلاً يمنع أو يقلل من تسرب الفلسفة للمتلقي العام - مع امكانية أن يستوعب جزءا أو بعضاً من الأفكار الفلسفية - وأيضا هو خطاب خطير، لأن المناطق التي يخوض بها "محذورة جداً" ويمكن أن تسبب مشكلات للذي يمارس التفكير والتفلسف، لأنه بصريح العبارة خطاب يعتمد العقل كمصدر للمعرفة وكأداة منهجية لتحليل وفحص النصوص والأشياء والأحداث بشكل علمي ودقيق ومتشدد، حتى تظهر النتائج المرغوبة صائبة.
وعلى ضوء ذلك تقرر الاحكام والنتائج وتعمم التوجيهات، وقد تكون مخالفة تماماً للسائد والمألوف، وهذا ما جعلني أعيد النظر إلى حد ما في فكرتي السابقة من توجيه خطاب فلسفي للجمهور فهم غير معنيين بذلك، وظلت تردد في المحافل والندوات العلمية والثقافية العبارة الاتية "من الملفت أن نلاحظ اقبالاً على المحافل والفعاليات الفلسفية، ومن الطبيعي أن يقل الاقبال عليها، لأنها بصريح العبارة نشاط نخبوي يقتصر على عينات من المجتمع وليس لكل أحد الحظوة بهذه المسؤولية وتحملها". لذا من الافضل أن يركز الاهتمام على ربط الفلسفة بالدولة والسلطة، وهذه الأخيرة ومن خلال أجهزتها الأيديولوجية "التربية والتعليم والثقافة" تعمل على صياغة الأفكار الفلسفية بقوالب قانونية ومقررات وبرامج حكومية لتبثها بين الناس، لتعيد تشكيل وعي الطبقات الاجتماعية المختلفة على وفق مقاربات الفكر الفلسفي. فتشكل السلطة حلقة الوصل والواسطة في تشكيل وعي المجتمع وبناء نموذجه الفكري والحضاري. ومع ذلك لا مانع من الاشتغال على بث أفكار عقلانية وفلسفية للناس مباشرة، فهي تلهمهم وتعيد صقل عقولهم، وتسهم في حثهم بالاتجاه صوب الفلسفة والثقافة والوعي القانون، وأيضا لأنها أفكار تتسم بالمرونة والانفتاح وتقبل الآخر والاعتراف به، فهي تقوض من سلطة التعصب وتحد من تمدد الخطاب المتطرف، وهما النماذج السائدة في المجتمعات التقليدية، وهي نماذج بحاجة إلى اصلاح وتغيير، أي بحاجة إلى "عقلنة" وهذا ما تتبناه الفلسفة وهو من صميم عملها ومهمتها التنويرية، التي تنادي بها من أول بروزها على مسرح الحياة قبل مئات السنين وإلى الآن.
وحتى الذي كان يدعوه بعض الفلاسفة من العودة بالفلسفة إلى حيث كانت تنتمي إلى الشوارع والساحات العامة "النقاش العمومي في المجال العام" لا يتعارض مع هذه الفكرة، فبالتالي ستعود الفلسفة تدريجياً من السلطة إلى الشارع والجمهور العام، عبر تلك النوافذ المؤسساتية، التي ستترجم الأفكار والمقترحات الفلسفية إلى قوانين وأزمات اخلاقية وقيمية، وهنا تتضح عندنا خارطة عمل الفلسفة فهي تبدأ بالسلطة وتنتهي بالمتلقي العام لتستوفي مهمتها الرائدة في وعي المجتمع وترسيخ العقلانية ونشر القيم الفلسفية.
إن الخطاب الفلسفي بالنسبة إلى السلطة يمثل نموذج "المشورة الفلسفية لها" فهو يعالج مجمل القضايا الاشكالية التي تواجها والتي هي جزء من مسؤوليتها "المدينية" فتعمد الفلسفة على تقديم الحلول للمشكلات واقتراح المعالجات للصعوبات المفروضة في الواقع، بل هي تعمل على التوقع "ما ينبغي أن يكون" في المستقبل، حتى تضمن سلامة الأفكار وجودتها التي تستند لها السلطة في مباشرة مسؤوليتها داخل المجتمع وفي أروقة الفعل السياسي.