وداد سلوم
يطرح الفيلم الإيطالي "أنا القبطان" مشكلة معاصرة تزداد أهمية مع الزمن لاستمرارها وعدم وجود أفق لحلها وهي الهجرة إلى أوروبا بطرق غير شرعية من بلدان العالم الثالث، مصوراً تلك الرحلة الطويلة التي يخوضها المهاجرون من أفريقيا في ظروف طبيعية ومناخية قاسية وتحت رحمة المهربين اللاإنسانيين واحتمال الوقوع في قبضة الشرطة أو المافيات التي تمارس عليهم كل أشكال التعذيب لتسلبهم أموالهم وليس لديها مشكلة في إطلاق النار عليهم، فهم أصلاً مهاجرون بأسماء وجوازات سفر مزورة .
كان الفيلم قد أطلق في مهرجان البندقية عام 2023 وحاز فيه جائزة أفضل مخرج و أفضل ممثل شاب، واختارته إيطاليا لينافس على الأوسكار بعد أن نال جائزة الأسد الفضي.
من مجتمع بسيط في السنغال حيث يعيش الشابان موسى وسيدو ينطلق الفيلم، ليحكي حكاية الشباب الطموح الباحث عن تحقيق ذاته، فموسى وسيدو يهويان الموسيقى ويأملان أن تتاح لهما الفرصة ليصبحا مشهورين، وهو ما يبدو صعباً في مجتمعهم المحلي الفقير، ولهذا يقرران السفر إلى إيطاليا من ليبيا عبر البحر، ويبدآن بالعمل بعد المدرسة وبسرية تامة ليوفرا المال اللازم، لسفرهما ودون أن يخبرا أسرتيهما.
ينطلقان في طريق مجهول ويقصدان المدينة حيث يتصيدهما المهربون، وبعد أن يدفعا المبلغ اللازم يسافران في سيارة بيك آب، يعتقدان أنها ستقودهم إلى ليبيا، ترافقهم في الرحلة مجموعة كبيرة من رجال ونساء وأطفال، لكن المهرب يتركهم بعد مسافة في الصحراء ليكملوا الطريق مشياً على الأقدام مع الدليل لأيام وليالٍ، في هجير الصحراء، التي تأكل الأقدام ويموت من يموت، لكن لم يكن بإمكانهم التأخر عن الدليل، فذلك يعني الضياع في الصحراء، يمرون قرب جثث كثيرة لمن مروا قبلهم ولم يحتملوا. وحين تقع امرأة على الأرض يتركونها بلا تردد، ورغم محاولة سيدو إنقاذها يضطر لتركها.
تأخذ الشرطة ابن عمه موسى ويقع سيدو في قبضة المافيا في صحراء ليبيا التي تأخذهم كعبيد وتشترط لإطلاق سراحهم أن يعطوهم رقم أهلهم ليدفعوا المال لقاء حريتهم ومن لا يملك رقم هاتف سيعذبونه حتى الموت. ويستعرض المخرج الإيطالي ماتيو غاروني بجرأة تلك الأساليب في التعذيب المريعة التي يستخدمونها. لكن سيدو ينجو مع عامل بناء يباع للعمل في بناء مزرعة لأحد الأثرياء الليبيين، يعلمه العمل وينجحان بنيل حريتهما مقابل بناء نافورة في المزرعة ويتابعان السفر إلى طرابلس حيث يلتقي ابن عمه موسى وقد أصيب بطلق ناري في قدمه أثناء هروبه من الشرطة، تحتاج قدم موسى إلى علاج سريع، وإلا فسوف تبتر لكن المشافي لا تستقبله؛ لأنه دخل بشكل غير قانوني وسيتم ترحيله، لهذا يبدأ سيدو بالعمل على متابعة الرحلة إلى ايطاليا فقد يستطيع إنقاذ ابن عمه هناك. لكنهما لا يملكان المال الكافي لسفر شخصين فيقرر مالك القارب أن يعلم سيدو قيادة المركب مقابل أن يأخذ أجر مسافر واحد منهما، يقع سيدو بين حجري رحى، فالقبول يعني مسؤولية كبيرة خاصة بعد أن يعرف أن المركب يحمل عدداً كبيراً من المهاجرين، والرفض صعب لأنه يغامر بحياة ابن عمه. في النهاية يقرر الإبحار بهمة ويمضي إلى عرض البحر ويصبح الوقت عدواً له وتغدو إيطاليا بعيدة.
بين المسافرين امرأة تلد وهناك في غرفة المحرك أخفى مالك المركب مسافرين كثيرين، يصابون بالإغماء وتبدأ فوضى على المركب نتيجة الذعر، لا ينجح خفر السواحل بالوصول إلى المركب رغم الاتصالات العديدة التي يقوم بها سيدو، فيقرر القيام بالمهمة وإنقاذ الجميع، يقف سيدو الشاب ابن الستة عشر عاماً بين الركاب وسط المركب ليقول سنصل جميعاً ولن يموت أحد. وفعلاً ينجح في النهاية ويصل إلى إيطاليا فيقف ويصرخ أنا القبطان.
ونجح في إنقاذ الأرواح التي رماها تجار البشر للموت.
الفيلم طويل لكنه مؤثر ومشوق يشد المشاهد وينزع تعاطفه واللافت في ذلك أن المخرج كان إيطالياً لكنه قام بتقديم الأحداث من زاوية المهاجرين وليس البلد الذي يعاني من هذه المشكلة ويحاول ايجاد حل لها. وحاول تقديم صورة صادقة عن المجتمع الأم، لأبطاله الشبان وطريقة تفكيرهم فرأينا كيف طلبوا مشورة الأجداد قبل السفر من شيخ يتواصل روحياً مع الأموات وحين ماتت المرأة في الطريق رأينا كيف حلم سيدو بها تطير وهو يمسكها بيدها. كان الممثلان الشابان يظهران ذلك التلكؤ أيضاً الذي من الطبيعي أن يعيشاه في هذه الظروف عاكساً الحالة النفسية التي سترافق المغامرة أما الموسيقى التصويرية فكانت أيضاً من وحي المعزوفات الأفريقية والأغاني التي ألفها الشابان.
ذكر المخرج أن الفيلم مستوحى من قصص حقيقية أخذها عن لسان مهاجرين التقاهم.. يذكرنا ذلك بفيلم "السباحتان" السوري والمأخوذ أيضاً من تجربة الشقيقتين سارة ويسرى مارديني وكيف أنقذتا المركب ومن فيه، إذ جرتاه سباحة إلى الشاطئ بعد أن تعطل في عرض البحر وما أكثر القصص التي تبكي القلوب.