مسحٌ شيطاني

ثقافة 2024/12/12
...

  باقر صاحب

كان كل شيء على ما هو عليه، كما يعتقد لغاية خروجه، صباح ذات يوم، من بيته، حاملا حقيبته، التي تضمُّ حاسبة "لابتوب"، فضلا عن مفاتيح وأوراق وهويات رسمية، وغير ذلك مما يثقل الحقيبة، حتى بدأت تتهرّأ، كما يشعرُ أحياناً، بأنه بدأ يتهرّأ، مثل تلك الحقيبة، وأنه يحمل نفسه، تفاصيل أعمال ومشاعرَ، أكثرَ من طاقته، إلى غاية مطابقة نفسه مطابقات طبيعيَّة، مثلا أنه سهليٌّ أكثرُ من السهل نفسه، وصحراويٌّ أكثر من الصحراء ذاتها، بين الاخضرار والاصفرارِ تاهت علاماته. غالباً ما يقدر من يراه بأنه أكثرُ من عمره الحقيقي.

وصلتْ سيارةُ الأجرةِ التي تقلُّه كلَّ يومٍ إلى مقرِّ عملهِ في إحدى صحف المدينة، عرفَ ذلك، مثلما كلّ مرةٍ، من خلال منبِّه السيّارة. 


(2)

خطا أولى خطواتهِ على عتبةِ البيت، فرأى أمامهُ صحراءً لامتناهيةً غباريّةَ الفضاء، اختفتِ المدينة، بكلِّ ما فيها، بل أصبحَ كلُّ ما فيها صَحراويّاً. أفقٌ مترامٍ بالبدوِ والخيامِ والمواشي والأحصنةِ والجِمال، هل هذا التحوُّلُ هو بفعلِ ما دهمهُ من أفكارٍ فتحولَّتْ واقعاً، عَرف عن نفسهِ التكيُّفَ مع ما هو واقع، والتحركَ وفقَ الحالةِ الجديدة. ولكنْ كيفَ يكونُ الإخلاصُ لهذهِ الحالة، وقد فرَّ منه آخرَ ما يذكّرهُ بالعالم، أينَ الحقيبة، فهو الآن كمنْ أصبحَ عارياً لا ترتديه أي ذاكرةٍ لما مضى قبلَ ساعةٍ من الآن، وبذا دخلَ نفقاً معتماً من النِّسيانِ لكلِّ شيء، ما عادَ يتذكَّرُ بأنَّه بانتظارِ سائقِ سيارةِ أجرة، ما يمرُّ به شيءٌ يختلفُ عن فقدانِ الذاكرةِ، الذي هو حالةٌ فرديةٌ لذاتٍ إنسانية، ما حدث.. أن الطبيعةَ فقدتْ ذاكرتَها. كلُّ جغرافيا أصبحتْ صحراويّةً، وكلُّ مدنيّةٍ أصبحتْ بدويةً، سار ذاهلاً لا يعرفُ نفسهُ، لا يعرفُ سوى أن عليهِ أن يسير، وكالمسطولِ تقودهُ قدماه، اقتربَ منهُ رجلٌ يعتلي فرساً، توقف قربهُ وترجّل، طالباً منه أن يصعدَ الفرس، ومضيا.. 

كالمتطامنِ لحالهِ الجديدة، أخذَ ينظر لما حوالَيْهِ، أنها صحراءُ العربِ، كما قرأَ عنها، أو كما شاهدَها في الأفلام، يتنقلونَ من موقعٍ إلى آخر، بحسب الماءِ والكلأ.  أولى خَطراتهِ، كانتْ إلى أينَ  يذهب، ومن ثّمَّ إلى أين يعود، هو ذاهبٌ لأجلِ الذهابِ فقط، فالصحراءُ تُغري بالمسير، ليسَ هناك محدّداتٌ اصطناعية، ولكنه لم يستطعْ تعريفَ تلك المحدّداتِ بما يُسَمّى مدينة. فقدانُ الجغرافيا أو هبوطُ جغرافيا بديلةٍ أدّى إلى فقدانِ الذاكرة، أو هبوطِها إلى مرحلة "الزهايمر".

في غمرةِ خطراتهِ التي بدأتْ تتدفقُ، بما يمكنُ لها أن تصدَّ تيارَ تآكلِ الذاكرةِ فيه، نسيَ أن يفتحَ حديثاً مع صاحب الفرس، الذي أنقذهُ من السيرِ راجلاً في بيداء، لا يتذكرُّ بأنّه قطعَ شبيهةً لها في حياتِه.

سأل صاحبَ الفرس من أينَ أتى، فأجابَ: لا أدري، وجدتُ نفسي قربَك، وأنا أعتلي فرساً، وكمن يقومُ بعملٍ يعيشُ من أجله، طلبتُ منكَ أن أساعدكَ على صعودها، وأنا أترجّل، كمن يطلبُ أجراً على ذلك، أو لأنّكَ كبيرُ السّن، وأنا ما زلتُ شابّاً.

-أجر؟ تساءل - ولكنني لا أملكُ شروى نقير، كما تقولُ العرب.

حاولَ الشابُ التفكيرَ في معنى هذا، أي في تحديدِ العلاقةِ بينهما الآن، لكنّهُ أقلعَ عن التفكير، بالقول: 

- لا يهم، إنها مساعدةٌ لرجلٍ مسنٍّ مثلك.

شكرَ المسنُّ الفارسَ الشاب، بحسبِ تحديدِ الأخيرِ للفارقِ بينهما في السّن، لأنَّ الأوّلَ لا يعرفُ قبلَ لحظاتٍ هذا التحديد، ولذا بادره بالقول:

- إلى أين نحنُ ماضيان؟

فأجابهُ الشاب محتاراً:

- أنتَ الذي يحدُّد ذلك، لا أنا، إن قلتَ لي عدْ، سنعود..

فكَّرَ المسنُّ بالأمر، فقال:

- هذه صحراءٌ مفتوحةٌ قد نتيهُ فيها، إن مضينا بعيداً، عن نقطةِ انطلاقنا، وأينَ هي، لقد عفتْها الرمالُ المتحركة، تبّاً لها- قال - كأنَّها ماسحةُ الذاكرة.

ثم استغرقَ في التفكير، كمن يريدُ أن يبعثَ أمراً ما زالَ في المنطقةِ الرمادية، ومن ثمّ دمدمَ بصوتٍ عالٍ:

- هذا فعلٌ شيطاني. مسحَ الذاكرة، ليصبحَ كلُّ شيءٍ عايشناهُ من آلامٍ ومآسٍ في قبضةِ النسيان، لتصبحَ ذاكرتنا صفريّةً، كي يُعادَ ملؤُها من جديدٍ بأطنانٍ من المآسي المحليةِ والمستوردة، يا إلهي. 

كان الشابُّ يُصغي باستغرابٍ وذهولٍ إلى كلماته، وكأنّها وصفٌ دقيقٌ مثلما هو حزين، لحالهما الآن. 

لنعدْ-  قالَ - بحزمٍ، قبلَ أن تمسحَ الرمالُ المتحركةُ كلَّ شيء، لنعدْ إلى نقطةِ الانطلاق، قبلَ أن تجرفَها الرّمال، وقبل أن تغيب الشمس، فنكون بين فكّي ليلٍ قد يغيب فيه القمر، وصحراء أقلَّ ما يقال عنها، أنها مفترسةٌ، بكوابيس وحوشها التي ستحاصرنا من كل الجهات. هيّا.. لكي نفوِّتَ على الفعلِ الشَّيطاني فرصةَ مسحِ ذاكرتنا تماماً، لقد عرفْنا لعبتهُ، لم تعدْ لدينا القدرةُ على البدء من جديد – وأضافَ-  ليس من المعقولِ أن ليسَ هناك نقطةٌ دالّة..


(3)

اختطّا طريقَ العودة، قبلَ أن يشتَّدَ هبوبُ الرّياح، فتهيّج الرمال المتحركةَ وشهوتها إلى محوِ كلِّ شيء.. دقّقا النظر، وكلاهما فيه لهفةٌ في العثورِ على نقطةِ إنقاذٍ لمسارِ حياتهما، فلمحا من بعيدٍ، نهيراً جنوبيَ الرُّقعةِ التي انطلقا منها، فأسرعا المسير، كان على الفرس أن يشد لجامَه، أمّا الشابُّ فكانَ يعدو.

حين اقتربا ممّا يَقصدان، وجدا ذاهلين أن أناساً كثيرينَ، سبقوهم في التجمعِ  قربَ النهير، فاتَّضحَ أنهُ يتشكَّلُ من غدرانٍ، تجمَّعَ الناسُ بخيامِهم قربَها. 

لا يعرفُ كيف قادتهُ قدماهُ إلى خيمةٍ بعينها، وجدَ فيها امرأةً وثلاثَ بناتٍ وولدين، هم ستةٌ إذاً، قبلَ أن يدلفَ، التفتَ إلى الوراء، فوجدَ أن الشابَّ وفرسه قد ابتعدا، كمن يبحثان عن موطئ قدمٍ لهما في هذه الخيام.

 واكتشف أن هناك صلةً جاذبةً بينه وبين المرأةِ  والأولادِ والبنات، وأنَّ التجمعَ البشريَّ ينعشُ الذاكرةَ رويداً رويداً. وكأيّ فعلٍ عفويٍّ، مثلِ الأفعالِ التي قامَ بها اليوم، بتلقائيةٍ حتّمها فقدانُ الذاكرة، كمنْ رصيدهُ صفريٌّ في هذه الحياة، فركَ، بيديهِ الناحلتين، عينيهِ التائهتينِ، بين ذاكرةِ مدينةٍ وحاضرِ صحراء، كي يطردَ عنهما نعاساً أو شكّاً من أن بصرهُ قد أصابهُ الزّوغان، إذ وجدَ نفسهُ، بغتةً، في غرفتهِ الدافئةِ ذاتَ البناءِ الكونكريتي، أسرعَ للخروجِ من الغرفة، هابطاً سُلَّماً متيناً، فاتحاً باباً رئيساً يؤدي إلى فناء بيته الصغير، وهرعَ إلى بابِ البيت، فتحهُ، فذهلَ إذ رأى المدينةَ قد عادت، حاولَ أن يتذكر، حاولَ أن..

لم يبقَ في مخيّلته سوى صحراء.. ففكّرَ في نشر سبقٍ صحفيٍّ في الصحيفة التي يعملُ فيها، يكون حصيلةَ عصارةِ ذاكرته: تراجعُ الغزوِ الصحراويِّ للمدينة، بعد احتلالٍ دامَ يوماً كاملاً.