مرتضى الجصاني
على الرغم من أنّ الحروفيّة لها أصل تاريخي وديني، حيث كانت مذهباً صوفياً ينادي بوحدة الوجود، تُعظّم الحروف وتُقدسها، وكذلك الأرقام وتركيبها في الكلمات، إذ يقال إنها تأسست في الربع الأخير من القرن الرابع عشر الميلادي، على يد رجل يعرف باسم فضل الله الاستربادي من استر باد إيران، والذي قتل على يد ميران شاه بن تيمورلنك. وعلى أثر انتشار الحروفيَّة بعد ذلك، ترك الحروفيون في القرن الخامس عشر الميلادي اللغة الفارسية، وبدأوا باستعمال اللغة التركية.
وتعتبر الحروفيّة الكون مظهراً للوجود المطلق، حيث الدنيا راسخة في علم الكون، وهذا الرسوخ يعدّ تجلياً للكائنات، إلا أنّ هذا الرأي في إطلاق أصل الحروفيّة ليس له صلة حقيقية بالفنّ الحروفي الذي نعرفه الآن، إلا في اللمحات الصوفيّة أو الغنوصيّة، لأن الفنّ الحروفيّ نشأ من خارج دائرة الفنّ الإسلاميّ. وربما يكون قد استوحى ذلك في فترات متأخرة، بمعنى أن الفن الحروفي لم يكن حالة امتداد للمذهب الحروفي.
إذا فإن الربط التاريخي بين الفنّ الحروفي والمذهب الحروفي ليس دقيقاً، وإذا تتبعنا نشوء الفنّ الحروفي يمكن أن نلاحظ أنه بعد وصول الخط العربي إلى ذروة الشكل الجمالي الاتقاني، توقف الخطاط عن البحث في مناطق أخرى للخط، لذلك لم يتمكن الخط العربي من إيجاد شكل آخر للحرف غير الاتقان، فهو عاجز عن إيجاد حلول إبداعية من داخله. وأعني من داخل منظومة الخط العربي أي من داخل المنظومة الفكريّة والفلسفيّة والجماليّة للخط العربي، فالخطاط أصبح متقناً أكثر من كونه فناناً مبدعاً، بسبب القيد الذي تفرضه قيم الخط العربي، وبالتالي أصبح البحث عن موضوعات مختلفة هو إخلال بالقيم الأخلاقية والدينية لهذا الفنّ، لذا لم يتمكن الخط العربي من إيجاد حلول لهذا الجمود الذي سيطر على مفاهيم الخط، والذي سنجد فيما بعد تجاوزه ولو بصورة بسيطة. لكن بعد كسر هالة القداسة من خارج منظومة الخط العربي، في منتصف القرن العشرين أو في نهاية النصف الأول منه، تظهر محاولات في الحرف العربي من فنانين تشكيليين يبحثون عن هوية فنية، بمعنى أن هذه المحاولات ليست من داخل فن الخط العربي، بل هي بحث عن هوية في ظل التجارب الغربية التي تسيدت المشهد الفني في دول عربية عدة، وفي أعمال لأكثر من فنان عربي. لذا كان البحث عن هوية للعمل الفني هاجس أغلب الفنانين في تلك الفترة، لكنها أصبحت أكثر تنظيماً في أعمال الفنانين العراقيين، نتيجة لمحاولة استلهام الحرف العربي حصراً، في حين نجد أن بعض الفنانين العرب، استخدم الحروف اليابانية والسريانية وغيرها.
والحروفيّة ظهرت نتيجة البحث عن هوية قومية للفنان العربي غاية في ترسيخ الموروث العربي في لوحات فنية، ولا عجب في ذلك إذا ما عدنا إلى تلك الفترة التي كانت تزدحم بالشعارات القومية سياسياً، فنراه ينعكس على أعمال الفنان وتفكيره ورؤيته تجاه الأشياء التاريخية.
وأخذت الحروفية شوطاً كبيراً من الممارسة، لكنها لم تأخذ القدر ذاته من التنظير، وإيجاد منفذ فني لما يتم عرضه على أنه حروفية، ولا يفوتنا أن الفنانين التشكيليين في تلك الحقبة الزمنية لم يلتفتوا كثيراً إلى ماهية الحروفية فاتجهوا إلى استلهام الخط العربي، وليس الحرف العربي باستثناء القليل منهم وحتى استلهام الحرف العربي في اللوحة هو استلهام جمالي شكلاني أو ترميزي تأويلي أو توضيحي على هامش اللوحة التشكيلية، بمعنى لم يكن الحرف هو الايقونة الأساسية للعمل الفني، في جانب آخر نجد العكس تماماً حيث استخدم بعض الفنانين اللوحة الخطية على أنها لوحة حروفية، وهذا الاتجاه هو الذي ساد بعد ذلك والقصد من اللوحة الخطية هو استخدام الخط العربي بأدواته وقواعده من خلال التكرار في العمل الفني ولا بد لنا أن نشير إلى معرض جماعة البعد الواحد التي أسسها الفنان شاكر حسن آل سعيد ، ونجد أنه اضطر إلى مشاركة خطاطين كلاسيكيين في سبيل إظهار دور الحرف العربي دون الالتفات إلى جزئية الاختلاف بين الحرف العربي والخط العربي، وربما منذ ذلك الحين والخلط بين اللوحة الخطية واللوحة الحروفية لا يكاد يفرقه المشتغلون في هذا المجال، فاللوحات الخطية التي انتشرت حالياً في جميع الملتقيات والعروض الفنية على أنها لوحات حروفية أخذت الحيز الأكبر وطغت على اللوحات الحروفية التي أصبحت من ضمن لوحات الفن التشكيلي الذي يجعل الحرف أحد عناصر اللوحة، ولا يعتمد على الحرف كأساس فني تقوم عليه اللوحة.
في الوقت الذي نرى أغلب من يكتب في مجال النقد الفني وفي موضوع الحروفية نجده يركز اهتمامه على قدسية الخط العربي من عدمها ويستغرق الكثير من المهتمين في هذه التفصيلة بغية إخراج الخط العربي من العزلة الفنية التي يعيشها في حين يغفلون الفرق الأساسي بين اللوحات التي تستلهم الحرف العربي وبين اللوحات الخطية التشكيلية، واللوحة التشكيلية الخطية، وبين لوحات الخط العربي الكلاسيكية. وبالعودة إلى الفرق بين اللوحة الحروفية واللوحة الخطيّة الحديثة نجد أن الفرق لا يقتصر على البعد البصري للعمل بل يتعدى ذلك إلى الأدوات والتقنية لكل منهما. فأدوات اللوحة الخطية الحديثة هي ذاتها أدوات اللوحة الكلاسيكية المتمثلة بالقصب والأحبار وغيرها من الأدوات ذات السُمك الخاص بالخط، والمقطوعة بزاوية خاصة للكتابة وفق قواعد الخط العربي، ولكن برؤية حديثة أما اللوحة الحروفية فأدواتها كثيرة وغير محددة ولا تشترط أي ميل في قطع الأدوات، ولا تتبع أي قاعدة من قواعد الخط المعروفة، بل تستلهم الحرف العربي فقط من دون التقيد بقواعد الخطوط المتبعة، ولكن تقنياً بأدوات الخط العربي، وهذا يجعل الحرف يملك سمكاً وحركة لا تتوفر في الشكل الكتابي، وأيضاً تنفلت من الشكل الخطي التقليدي.
إذ يمكن وضع شكلا نظريا للوحة الحروفية، بأن تكون مزيجاً بين الشكل الكتابي للحرف، وبين تقنية الخط العربي على سطح تشكيلي، وهي بذلك لا يمكن تصنيفها عملاً تشكيلياً بحتاً كما لا يمكن تصنيفها عملاً خطياً ولا كاليگرافياً، بل هي كيان قائم بذاته على وفق رؤية فلسفيَّة وتقنية
مختلفة.