ترجمة: جودت جالي
طبع آخر عمل قصصي لجي أم كويتزي مثل عمليه السابقين في إسبانيا باللغة الاسبانية، وجاء بعنوان "القطب" قبل طبع نسخته الإنكليزية التي ظهرت أولاً في أستراليا حيث يقيم الآن مواطنا أستراليا وبعدها في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. هذا السياق الذي أثار بعض التعليقات في العالم الإنكليزي قد وصفه المؤلف بأنّه وقوف إلى جانب الجنوب المهمل ضد "حراس البوابة الثقافيّة" للشمال المستبد. ربما يكون القرار غير العادي للحائز جائزة نوبل لا صلة له بفهم عمله ولكن الأصداء الادراكية والبيكيتية "نسبة إلى بيكيت" لعمله يصبح تجاهلها أصعب مع ظهور العمل.
باستثناء الصفحات السبع الأخيرة فإنّ هذه الرواية القصيرة جاءت فصولها بأقسام مرقمة قصيرة بعضها لا يتجاوز بضعة أسطر. فصولها الستة تقع في 112 صفحة. النثر مقتصد ومباشر، وهو أسلوب سيجده قارئو عمل كويتزي المبكر وما بعده مألوفا، ولا يوجد فيها أثر للغموض المجازي لأعماله الأخيرة. هذا العمل وفقاً لكلمة الناشر إعادة اشتغال لقصة حب دانتي - بياتريس مرئية من خلال عيون المرأة، وحقاً أن الرواية مليئة بالإشارات الى دانتي، ولكن الحبكة تذكر القارئ برواية "جسور مقاطعة ماديسون" لروبيرت جيمس والر "تحولت سنة 1995 إلى فيلم تمثيل كلينت إيستوود وميريل ستريب- م".
(وِتْوُلْد) عازف بيانو بولوني في سن الشيخوخة يسافر الى برشلونة ليعزف موسيقى شوبان في حفلة مسائية، ومع أنه المقصود بعنوان الرواية "القطب" ولكنّه ليس الشخصية الرئيسة ولا نقرأ عن دواخله تفاصيل مباشرة، غير أننا نعرف أنه أخذ يشعر بالحب لمنظِّمة من منظمي الحفل. غير أنَّ المقصودة "بياتريز" تعمل القليل لتشجيع (وِتْوُلد)، وإن اضطرت أخيراً لأن تقيم معه علاقة على الماشي تنتهي بعد بضع ليالٍ قضياها معاً ومارست معه الجنس بلا حماس في قصر ريفي وكان أحد أسباب الفتور هو الحاجز اللغوي والتواصل فقط ببضع كلمات انكليزية.
إنّها تقترب من الخمسين وبدأت تقلق من تقدمها في العمر. هي تعرف بأنّها "ذكية، جيدة الثقافة، وزوجة وأم صالحة، ولكن لا أحد يهتم بها"، وأخذت على نحو ما تشعر بالاهتمام بعازف البيانو "ذي اليدين الضخمتين والصدر الذي يبدو كأنّه يريد الاندفاع خارج سترته".
إنَّ شعره كلي البياض ولكنه يتحرك بسهولة أكثر ممن هم في سنه، ووجهه "الطويل، الحزين، وعيونه ذات الزرقة الذابلة" تذكرها بملامح الممثل السويدي ماكس فون سيدو. بدا لها وكأنه ترك خلفه "طلاقات كثيرة". لقد تأثرت بعزفه وحضوره ويبقى بالنسبة إليها هو "القطب" وقد غير اتجاه مؤشرها، وهو "الأجنبي" كذلك، حتى وإن أصبحا بعد حين عاشقين لفترة قصيرة.
يغادر عائداً، وبعد أسبوع يصلها بالإيميل قرص لموسيقى شوبان، ثم يأتي بعد فترة ليلقي محاضرات في مدينة جيرونا إلى الشمال بمئة كيلو متر ويدعوها للقائه ملمحاً الى أنه لم يأتِ إلا ليراها، وتستجيب بعد تردد، ولكن اللقاء لا يسير على ما يرام فهو يذكر لها بياتريس محبوبة دانتي "التي لم تعطه كلمة واحدة" وحسبت بياتريز أن هذا "المغفل المسكين" يقصدها هي. لم تشعر بالرغبة في رؤيته مرة أخرى، ومع ذلك برغم أنها "لا تحترم شهوات الرجال" إلا أنها في الوقت نفسه موضوع لرغبات "غير واضحة أحيانا". بعدها لم تعد تجيب على إيميلاته. بعد سنوات تتلقى اتصالا هاتفيا يعلمها بأن (وتولد) مات، وترث بياتريز أوراقاً تذهب لتحصل عليها من شقته في وارشو تتضمن سلسلة قصائد عن مشاعره نحوها. تتفق عن طريق القنصلية البولونية مع من يترجم لها القصائد الى الاسبانية، وفي الفصل الختامي، تشرع بتحليلها.
هنا يتضح لنا جيداً لماذا تلعب الترجمة دوراً مهماً في هذا الكتاب. إنَّ القصائد موجهة اليها ولكنها لا تستطيع قراءتها. نواجه هنا مشكلة، القصائد في النص الأصلي هي بالإنكليزية وعند ترجمتها الى الإسبانية لم تترجمها المترجمة إلى الاسبانية الكاتالانية كما يفترض لتقرأها بياتريز، بل ترجمتها الى الإسبانية الأرجنتينية. لم تحب بياتريز قصائده كما لم تحب شوبانه ولم تحب خصوصا أنه يراها بياتريس، وكل ما لديها عنه "نسخة يمكنني قراءتها". ما أرادت أن تقوله له بعد أن لم يعد ممكنا أن يسمعها بأنهما لو قاما فقط بنزع قناع البالغين، اللغة، واقتربا من بعضهما بعضا كالأطفال "فالأطفال لا يحتاجون لغة ليلعبوا معا".
هذا العمل المتأخّر لا يرقى إلى كونه من أعمال كويتزي القوية، مع أنه يستحق الثناء، يبدو سرده القصصي غير منطقي، فالعلاقة الغراميَّة رتيبة أكثر من كونها مشوّقة، والقصائد التي ورثتها بياتريز من (وتولد) ليس لها أثر كبير عليها لتغيير نظرتها الى قصتهما العادية. غير أنّ الرواية تثير مسائل شكلية جديرة بالاهتمام. يستحيل، مثلا، أن لا نلاحظ الكثير مما يتعلق بقضية طبع الكتاب، فهذه نسخة مترجمة لرواية قصيرة تتمفصل على محاولات التواصل اللغوي والقيام بأفعال مضاعفة من الترجمة والتأويل. يدير (وتولد) و(بياتريز) علاقتهما انطلاقا من لغة، هي الإنكليزية، وهي ليست لغة أي منهما، ويلتقيان على أرضية كلاهما يفتقدان التمكّن عليها، ومن ثم لم يجعلا العلاقة أسهل. إن تأويل (وتولد) المجدد لعمل شوبان، ولكنه لا يحظى بشعبيّة، قد تم النقاش فيه طوال الرواية. إنَّ نسخته لشوبان ليست رومانتيكية ولا حداثية، كما أنّها ليست حميمة ولا حاذقة، ولكنها "بسيطة يبدو فيها شوبان وريثاً لباخ". أخيراً نقول بأن حل عقدة القصائد يعتمد على مترجم يعمل بدقة ترجمة الوثائق القانونية لإنتاج نسخة اسبانية مفهومة لسلسلة القصائد، والتي تقوم بياتريز بدورها بتأويلها.
إنَّ كويتزي الذي ألقى بين عامي 2015 و 2018 محاضرات منتظمة في جامعة بوينس آيريس قال بأن النسخة الإسبانية لهذا الكتاب تعكس مقاصده أفضل من النسخة الإنكليزية، وكأنه يلمح إلى وجوب اعتبارها النسخة الأصلية من الرواية. إنه بتسليمه النص لمترجمته الأرجنتينية ماريانا ديموبولوس قد تخلى عن أولوية عمله الإنكليزي بطريقة تعكس صورة أفعال شخصيات روايته القصيرة مصوراً فيها الحب والرغبة كتوقين محكوم عليهما أن يكونا مترجمين ومؤولين.
على هذا الضوء فإنَّ عيوب نسخة ديموبولوس الإسبانية ربما تصبح أقل أهمية أو أقل استحقاقاً للوم. إنَّ بياتريز إسبانية كاتالانية ولكن كلامها وأفكارها أصبحت بالترجمة بتعابير أرجنتينية، والنص غالباً ما ينقل التعابير الإنكليزية بحرفية شديدة. إن قصة "القطب" تقودها الهفوات في الترجمة، ويمكن للقراء أن يختاروا رؤية هفوات ديموبولوس دليلاً متعمداً على الوقوع في الخطأ.
يبدو واضحاً في كل الأحداث بأن تخلي كويتزي عن الأسبقية يفتح الباب لاحتمالات أخرى، وإذا ذهبنا الى أبعد الاستنتاجات فإنّنا قد نقبل بنسخ انكليزية بديلة للقطب، أو لا نسخة انكليزية على الإطلاق.
المصادر:
1- Times literary supplement
2- The new york review of books.