ثورة على الحياة

ثقافة 2024/12/16
...

 إحسان العسكري
من بديهيات العمل الفني في حدوده المظهرية والإبداعية الوقوف عند دلالاته وإشاراته ورسالته، وما يحوي من قيم عاطفية وجمالية وإلهام ثوري ومعنوي للروح، لذا كان الفنّ ولا يزال هو من يحدد ماهية الأبعاد الجمالية وتقريب المسافة بين صاحب الأثر الفني والمتلقي، لكونهما يشكلان الوسيط الذي يحمل رسالة التقويم الفني والجمالي في مخاطبة الحياة وتحديد موقعها في خضم الصراعات بين النور والظلام المؤثرة، كذلك كان للمتلقي العين التي تندهش به وتمضي في طريقها إلى تذوق الأثر الإبداعي. وكلما زاد تراكم الانتاج الفني وتنوعت أشكاله ومسالكه، باتت الحاجة إلى التأثر به وتذوقه ضرورة ملحة لاسيما وأنه يعتمد على النظرة الواعية كخطوة أساسية لتقييم هذا 

الانتاج. 

فحين نتحدث عن الاتجاهات الحديثة في الفنّ التشكيلي عبر مفهوم التشكيل نفسه، نحتاج بشدة لرواده وأعمالهم الحاوية على  مقومات العمل الفني سواء كان كلاسيكياً أو محدثاً. 

وكما اجتهد الفنان علي عبد الكريم بجعل العمل التشكيلي نصًا منفتحًا بما فيه من صياغات متحررة من المفاهيم التقليدية معتمداً على الحياة بأدق تفاصيلها لم يأت اجتهاده هذا من فراغ، فهو الكاتب والصحفي والمصمم والتشكيلي متعدد المواهب وقبل هذا كله هو الإنسان الممتهن للثقافة. وهنا نتوقف عند جهوده بإدارة البيت الثقافي في ذي قار ورئاسة تحرير مجلة المتابع الثقافي والثقافية الصادرتين بجهد شخصي منه. 

وبالعودة لأعماله‘ فمن المدرسة الواقعية وحتى المذهب التعبيري لم يترك مجالاً يدفع القارئ ليصنفه وفقا لأعماله كتابعٍ لمدرسة معينة وهنا يتبلور المفهوم الشمولي للإبداع في هذا المجال الفني 

الخالد.

غالباً ما يغوص عبد الكريم في أعماق الحياة بتفصيلاتها كافة، مهما كانت بسيطة كلوحته "صانع المسابيح" و "بائع الحَب" وغيرهما من اللوحات مثل "انتظار" - زيت على ورق وأكريلك على كانفاس -  رسم أدق التفاصيل للشخصيات وأكّد على موضوعة الحياة بتفانٍ وكأنه يريد للوحة أن تنطق فاِجتهد وأبدع وتألق، وإذا ما عدنا إلى المدرسة التعبيرية فنجد لوحته "ثورة على الحياة - زيت على قماش" ممتلئة بأدق تفاصيل النبض بالحياة ومفهوم الثورة بات واضحاً جداً، فضربات الفرشاة ومزج الألوان بطريقة الشفق المضيء أو بالبعد السماوي نجده أعطى حصة الأسد لمفهوم الثورة والحياة، ولم يغفل شيئاً أبداً حتى الحب كان له الحضور الواضح فيها. وبتوصيف أدق تعتبر فإن هذه اللوحة موضوع مستقل بذاته يعلن عن فنانٍ عراقي ينتمي لروحه المحلية، ولكن بعقلية الفنان العالمي الذي يعرف متى وكيف وأين يؤثر وفي أي موردٍ ينتهي، ومن أي الخطى 

يبدأ. 

فالفنان لديه موهبة الحضور والتأثير حتى في فنه مما حدا بالمتاحف المهمة اقتناء بعض أعماله كلوحة "المرأة في الأهوار" والتي تزّين أروقة متحف "هنّ الحياة" في بابل، وكذلك لوحته "مجنون ليلى" والتي تضيء الآن مدخل المتحف الإسلامي في القاهرة، وهذه اللوحة التي تفوق فيها عبد الكريم على نفسه باعتقادي هي من رسمته لا هو، والسبب هو قربه الشديد من الشعراء وعلاقته الوطيدة بهم وبالشعر، فاستغل النص ليحوله إلى صورة بطريقة رائعة راقية أعلن فيها عن احترامه للمرأة والتراث العربي الإسلامي والمجتمع المثقف وجمهور الشعراء والحب كلا بحسب ما يستحق، فرسم المرأة بطريقة تليق بكل ما سبق وليس غريباً عليه فمعرفة ذوق المؤسسات لديه لم يأت من فراغ كما أن الأخيرة عرفت كيف تختار ما يلائم اسمها المعنوي و اختصاصها. 

وهنا أضحت قراءة اللوحات التي يرسمها تقبل احتمالات وتأويلات كثيرة ومتباينة، فقد جعل من المتلقي بعيداً عن الفهم المبهم للعمل وأدخله في أعماق إبداعه مما قلّص الفجوة بين الفنّ التشكيلي والمتلقي، لأنه أخذ من التغريب وأضاف للتقريب، مما أبعد حاجز الارتباك والحيرة حينما أبعد العبثية والتمويه والعمق غير المستحسن والغرابة عن أعماله في محاولة لكسر حاجز الاغتراب بينه وبين المتلقي ساعده في ذلك تعدد مواهبه، فهو أيضاً نحات ومبرمج فني ومونتير وكذلك شهادته الأكاديمية في الصحافة وتحركاته في جمع الفنانين الشباب في العراق والناصرية تحديداً، إذ كان من المؤسسين لمركز "الرواق" للفنون ومؤسس رابطة سومر للفنون ناهيك عن تنظيم الفعاليات الثقافية وعضويته في أغلب اللجان التحضيرية للمهرجانات الفنية والثقافية واشتراكه في دورات اليونسكو ومعارضه في العراق والدول العربية.