عدنان حسين أحمد
لم يكن الهدف من كتابة سيناريو "عندما رن الهاتف" للمؤلفة والمخرجة الصربية ايفا راديفوييفيتش أن يكون مادة لفيلم سينمائي، وإنما كتبته كقصة لها اشتراطاتها الخاصة التي تنتظم لاحقا في كتاب. غير أن هذه القصة كانت عبارة عن ذكريات شخصية تجمع بين الذات والموضوع وتصلح لأن تكون مادة لفيلم سينمائي يزاوج بين الوثيقة والسرد الروائي.تقول الراوية "سلافيكا باجيتا" عن وقائع هذا الفيلم الذي يقترب كثيرًا من السيرة الذاتية: "لقد حدث ذلك في بلد لم يعد موجودا، إلا في الكتب والأفلام وذكريات أولئك الناس الذين ولدوا قبل عام 1995".
ومع أن الحرب البلقانية بدأت عام 1991 إلّا أنها تتأخر سنة كاملة في الفيلم؛ لأنّ المُخرجة وأمها وأختها قد غادرنَ يوغسلافيا جميعًا سنة 1992.
تتمحور أفلام ايفا راديفوييفيتش الأربعة على فكرتي النزوح والهجرة وتداعياتهما المُفجعة على النازحين والمهاجرين والمقتَلعين من جذورهم. وفي هذا الفيلم تُتيح لنا المخرجة أن نشاهد جانبًا من ذاكرة "لانا" مقرونة بالذاكرة الجمعية لأهلها وذويها والناس الآخرين المحيطين بها.
تستهل المخرجة فيلمها بموسيقى "أوبرا كارمن" ذائعة الصيت، تلك الشخصية التي "تؤمن بحرية جسدها، ولا تعرف قيدًا، ولا تعترف بحاجز". وفي أحد أيام الجمعة يرنّ الهاتف في الساعة 10:36 دقيقة صباحًا، في عام 1992 ليخبرها شخص على الجانب الآخر من الخط بأنّ جدها لأمها قد مات متأثرًا بنوبة قلبية وكأنَّ هذا الموت هو إعلان لحالة الحرب التي تضطرها، هي وأسرتها، لمغادرة البلاد التي ستتفتّت ويتوارى اسمها عن الوجود. هذا هو العمود الفقري للقصة السينمائية التي ستنتهي بدخول نفق والخروج منه إلى عالم آخر مغاير تمامًا لما عرفته "لانا" وشقيقتها التي رافقتها في هذه الرحلة المكتظة بالمخاطر والمفاجآت. ومع أن قصة الفيلم الرئيسة تتكئ على الذكريات الذاتية والموضوعية إلّا أنها تكتظ بالثيمات الفرعية الكثيرة مثل التاريخ، والسياسة، والهُوية، والموت، والحياة اليومية التي تضجُّ بالشباب والمراهقين الذين يؤثثون جانبًا مهمًا من هذا الفيلم.
يتكرر بعض الموتيفات على مدار الفيلم الذي بلغت مدته 73 دقيقة مثل الساعة والحقائب وهاجس الرحيل القائم منذ مُستهل الفيلم وحتى نهايته.
وقد نجحت المخرجة في الإيحاء بالحرب من دون إزعاج المتلقي بدويّ قنابلها وأزيز رصاصها وأعطتنا فرصة كبيرة للتعرف على "لانا" التي تعزف على البيانو مقطوعاتها المفضلة الثلاث وهي: مارش جنائزي، ومقطوعة محلية، وسوناتا ضوء القمر. كما أتاحت لنا الفرصة لنكتشف تعلّقها بزميل شقيقتها الكبرى في المدرسة "فلادا" وهو مغني روك وفوضوي لا يأبه بالموت، ويشمّ الغراء ليحقق نشوته، ولكنه يحميها إذا ما نزلت إلى الشارع ويدافع عنها على الرغم من محنته الوجودية وضياعه شبه التام بسبب تداعيات الحرب، وفقدان الهُوية، وارتفاع الأسعار، وغياب الأمن وما إلى ذلك من مظاهر جديدة طرأت على المجتمع اليوغسلافي الذي تصدّع إلى سبع دول تلهث خلف قومياتها واثنياتها العرقية. وإذا كان جدها من جهة الأم قد مات بسكتة قلبية فإنّ أصدقاءها وأهلها ومعارفها يختفون جميعًا، كما يتوارى أبوها وأمها وأختها في خاتمة المطاف.
لم نرَ الحرب في هذا الفيلم ولكننا رأينا انعكاساتها مثل ارتفاع الأسعار بطريقة فلكية حتى أن الخبز قد أصبح حاجة كمالية، والأم لا تستطيع أن تُقدّم لأولادها وجبة طعام عادية. أمّا الانفلات الأمني فيمكن ملاحظته بارتفاع نسبة العنف حيث يشهر بعض الشباب السكاكين لكي يسرقوا الأحذية الرياضية التي يرتديها الميسورون من أبناء المجتمع. كما يتم استيراد الوقود من هنغاريا لتلبية الحاجة المحلية، فلا غرابة أن تحزم "لانا" وشقيقتها "فانيا" حقيبتيهما وتستقلان سيارة الأجرة التي تخترق بهما الحدود والأنفاق الجبلية لتصل إلى الوجهة المطلوبة حيث نشاهد عينًا ترمش في الظلام وأمواجَ بحر متلاطمة.
تؤكد المخرجة ايفا راديفوييفيتش بأنها قسّمت الفيلم على مقاس الذاكرة التي تجزأت هي الأخرى على وفق الإنسان المُهاجر الذي سيتصدّع بطبيعته حينما ينتقل من بلد إلى بلد، ومن لغة إلى أخرى، ومن واقع إلى واقع جديد.
جدير ذكره أن راديفوييفيتش قد أنجزت حتى الآن أربعة أفلام وهي : "حدود متبخرة" و "ترابط" و "Aleph". حصلت ايفا على تنويه خاص عن فيلم "عندما رنّ الهاتف" من مهرجان لوكارنو السينمائي سنة 2024.