علي حمود الحسن
رحل عن عالمنا الفاني المخرج السينمائي العراقي قيس الزبيدي عن عمر ناهز الـ 89عاماً، الزبيدي المولود في بغداد عام 1939، تنقل بين الأعظمية والحيدر خانة، سكنه هاجس "دقات" المسرح من خلال خاله اليساري، الذي عرفه على سامي عبد الحميد ويوسف العاني وأساطين المسرح العراقي، فاتسعت آفاق تفكيره وأغرم بهذا الفن الجميل، ثم اكتشف السينما وأدمن دخولها. سنحت له فرصة الدراسة في ألمانيا، فالتحق بمعهد الفيلم العالي في بابلسبرغ، إذ حصل على دبلومين في المونتاج والتصوير؛ الأول عام 1964، والثاني عام 1969، كما حصل على درجة الإخراج عن كتابة وتصوير ومونتاج فيلمه "في سنوات طيران النورس".
متعدد المواهب مونتاجاً وتصويراً وإخراجاً وكتابة، وجد في السينما الوثائقية وسيلة للتعبير عن رؤاه التجديدية، فضلاً عن كونها سلاحاً بيده لنصرة قضية فلسطين التي تلبسها وتلبسته، فأخرج لها أفلاماً، أشهرها "بعيداً عن الوطن"(1969)، و"شهادة الأطفال في زمن الحرب"(1972)، والفيلم الأقرب للتجريب "الزيارة" (1970)، و "واهب الحرية"(1989).. هذه الأفلام معظمها ذات منحى جمالي ومحمول فكري واضح مدعم بالوثيقة والكتابة الرصينة.
ربما لا يعرف الكثير من العراقيين صاحب "اليازرلي" الذي خرج من العراق في بداية الستينيات من القرن الماضي ولم يعد إليه، إلا بضع مرات آخرها في العام 2015، فهو عاش شبه قطيعة مع وطنه، فلم يخرج سوى فيلم واحد بعنوان "ألوان" عن الفنان التشكيلي العراقي علوان جبر، تنقل قيس الزبيدي بين ألمانيا وسوريا ولبنان، وكان وجوده في سوريا التي عشقها وعمل مع معظم مخرجيها، إذ أسهم في تأسيس مهرجان دمشق السينمائي مع صناع سينما سوريين، كانوا جميعاً يتطلعون إلى سينما أخرى، بعيداً عن السينما التجارية، "سينما بديلة" ليس في المضمون حسب، إنما في المستوى الفني والتقني، فجسدوا مفهومها في أفلام على شاكلة: " اليازرلي" للزبيدي، و"الحياة اليومية لقرية سورية" لعمر أميرالاي، و"الفهد" لنبيل المالح.
انتمى مخرجنا الراحل إلى القضية الفلسطينية وتماهى معها، فأخرج عنها أفلاماً، وكتب عنها كثيراً، كما أسس "الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني" بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي في برلين، فضلاً عن كتب ألفها، أبرزها: "السينما التسجيلية واقعية بلا ضفاف"، وكتابه "فلسطين في السينما" الأرشيفي الذي وثق فيه لأكثر من 600 فيلم فلسطيني، كتب عنه الناقد المصري محسن ويفي كتاباً بعنوان "عاشق فلسطين"(1995)، كما وثق سيرته المخرج محمد ملص بكتابه "قيس الزبيدي.. الحياة قصاصات على الجدار"(2019).
عانى قيس الزبيدي من الغربة، أو المنفى مثلما كان يردد: "اخترت أن أعيش مواطناً سورياً، لكني لست سورياً، وعشت فلسطينياً، لكنها ليست وطني، وأنا الآن ألماني، لكن ألمانيا ليست وطني. أنا لست حراً في اختيار العودة إلى أي مكان". أما آن لهذه الروح المبدعة والقلقة أن تعود إلى طينها الحري.