هويدا محمد مصطفى
من يشاهد أعمال الفنان يوسف عبدلكي الجديدة ستستوقفه لوحات فحمية جدارية تعمل على إبراز ضخامة الأحذية الرجالية والأنثوية والموضوعات الأخرى التي تحوز وتثير اهتمام الفنانين، وكأنه يسعى عبر تجسيده لهذه الأشكال إلى كسر الموضوعات المثبتة في اللوحة التقليدية، والمجاهرة بإيقاعات لأحذية عملاقة مرسومة بدقة واقعية مشحونة بالتفاصيل والرموز، كما يرسم الجماجم والعظام والعلب الفارغة ليعبر عن الصورة الحياتية المتلاشية في الفراغ والصمت. لذا تقترب لوحاته من الوقائع الحياتية المأساوية التي نعيشها في كل لحظة، فهي في مجملها تعكس معطيات الأشكال الميتة انطلاقاً من أشياء رمزية كالجمجمة والفك وعظام القفص ورأس السمكة والطبيعة الصامتة التي يصل من خلالها إلى السخرية من واقع اغتال الأحلام. هكذا يعمل في رمزيته التعبيرية الواقعية على إظهار الهياكل والجماجم والعظام من دون روح وحياة، لإبراز تداعيات الموت والتطلعات الشاحبة المستمدة من ألوان
الواقع.
وحتى لا تتحول هذه الهياكل والعظام إلى رؤى كابوسية يعود عبدلكي بين الحين والآخر إلى تجسيد مقاطع من غصن أو زهرة أو إناء ليروي علاقة تبادلية بين اليأس والأمل، وبين رموز الموت والولادة الجديدة.
وهذا يعني أن الشعور بوطأة الحياة، لم يمنعه من البحث عن الحركة الشاعرية التي تملصه من حالات الشعور بألوان الغربة وبانكسارات الزمن وبانطباعات العزلة والفراغ والخوف والقلق، فهو يتوغل في رؤية التفاصيل الدقيقة للوصول إلى الرؤية التعبيرية الرمزية التي تتكشف أبعادها في الهياكل والعظام والرؤوس المقطوعة والعلب الفارغة المشبعة بفراغات هذا الزمن الطاعن بالمآسي والويلات والحروب المتواصلة دون توقف أو
انقطاع.
ومن خلال معارضه المتنوعة التي قدمها في جميع مراحله الفنية تشكل لوحاته في النهاية تساؤلات غير مباشرة حول مصير الإنسان المعاصر المحاصر بحالات القلق والاغتراب والإحباط، إنها عناصر لمسرح تشكيلي يعبر عن الواقع
المعاش.
وعلى الصعيد التشكيلي يبدو عبدلكي خارج كل التصنيفات الفنية الحديثة، بل وكل المدارس التي عرفتها عواصم الفنّ الكبرى، همه الأكبر الرسم الساخر الذي يبرز كل تداعيات الضياع والقلق. إنه يجسد ارتجاج واهتزاز الأمكنة والجدران وإيقاعات المدن المتهدمة ومشاعر الغربة وضياع الأرض والأحلام في الأزمنة الراهنة.
ومعرضه الذي أقامه تحت عنوان "أشخاص" حمل معطيات الفنون العربية الزخرفية عبر اتجاهه نحو شغل فضاء بعض المساحات التي تكون الشكل الإنساني ببعض البنى الزخرفية الهندسية، والتي يحاول من خلالها الابتعاد قدر الإمكان عن تقليدية أو رصانة البنى الزخرفية القديمة، هكذا يدخل في محاولة التخلص من مقولة التوازن الذي هو جزء من حركة الزخارف التقليدية، بحيث تتحول الزخارف في بعض مقاطع اللوحة إلى مجرد خواطر عفوية تتحقق عبرها بعض اللمسات المتحررة والمتتابعة، رغم أنها تبدو في بعض أجزاء اللوحة أكثر اقتراحاً من التكثيف من خلال الدقة والنمنمة التي هي جزء من حركة الزخرفة الشرقية
والإسلامية.
وعلى هذا نجد لوحات تلك المرحلة انفتحت على إيقاعات زخرفية تتحرك بحرية في فضاء الشكل الإنساني وبطريقة خاصة تأخذنا مرة إلى حركة عاطفية طيعة لا تلتزم بالصياغة الهندسية العقلانية، في حين تأخذنا مرة أخرى إلى سكونية وانكماش، مما يضفي نوعاً من القساوة على تعابير العاطفة من خلال أدخال الخطوط المستقيمة والتي يعلن من خلالها عن رغبات جمالية شرقية تتجاوز مسألة التراضي مع معطيات الحداثة الفنية الأوروبية. ولوحاته تلك جاءت مفتوحة على الواقع المحمل بوقائع اليأس والمرارة والألم، بقدر ماهي مفتوحة على المعطيات والتقنيات الحديثة، فهو يرسم الأشخاص في أطار كاريكاتوري ساخر، منطلقاً في الوقت نفسه من الصياغة التأليفية للوحة التشكيلية الحديثة، ففي لوحاته المرسومة بالباستيل والغواش، يدخل تقنية الكولاج الحديثة المفتوحة على بدايات الاتجاه التكعيبي الذي بدأ مع براك وبيكاسو، وشهد أولى محاولات إلصاق المواد وورق الجرائد على سطح اللوحة، أما في رسومات محفوراته.
فهو يعتمد على تقنية الحفر على النحاس، ويقدم لوحات بالأسود والأبيض، ومع ذلك فهو في مجمل لوحاته "المرسومة والمطبوعة" يحتفظ بخطه الأسلوبي الخاص، الذي يضعنا مباشرة أمام نوع من الممارسة الفنية الانتقادية التي تعتمد قبل أي شيء آخر على حضور الفكرة السلبية للتعبير عن حدة الواقع المضحك المبكي. فهو يركز في كل مرة لإزاحة الستار عن مسرح الحياة اليومية في هلوسته المجنونة، ففي رسوماته ولوحاته السابقة والجديدة الشكل الإنساني دائماً هو نفسه، إنه يشير إلى حالة انهزام
وضياع.
ويذكر أن يوسف عبدلكي من مواليد القامشلي 1951 درس الفن في دمشق وباريس، وحاز على شهادة دكتوراه في الفنون التشكيلية من جامعة باريس الثامنة عام 1989، ولقد أقام أكثر من ثلاثين معرضاً منفرداً في عواصم ومدن سورية وعربية وعالمية.