أثير الهاشمي
لسلطة تأويل النصّ مفاهيم خاصة، تنطلق منها وتعود إليها، تُفضي تصاويرها، وتخبّئ طاقات اللغة فيها، تستهوي القارئ إليها، وتستنجد بالتأويل عليها، فلا تنفكّ منها، ولا تستعصي وجها لها. ومن ثمَّ فإن عملية النجاة بمفردك قد يكلّفك الغرق، حتى إن كنت هيأت أدلة الخلاص، فاللغة أحيانا تخدعنا في ظلّ التطوّر والتحوّل في مفاصل الحياة، وفي المقابل هناك من يقف صلباً في مواجهة الحداثة، لا لشيء سوى أننا نبحث عن الجديد، في ظلّ قارئ صار كسولا، يبحث عن لجة الاختصار، وينظر إلى فجوة الانتصار من دون تكلفة للوقت، فالمفارقات التي أحدثها العالم من حروب وتقلبات الزمن والتطور وما شابه، جعل المتلقي يبحث عن اختصارات تناسبه، فالمتلقي للأدب مثلاً، صار يبحث عن جنس أدبي يؤثّر فيه، ونصّ بلاغي يليق بوقته، ولغة تقنعه، وقصيدة لا تعارض إدمانه في شؤون أخرى.
إنّ ما تخبّئه لنا النصوص مُلزمة لنا بضرورة التحرّي والتقصّي عمّا يرد من آراء تمثل أصحابها من الكُتّاب، فلا هم يقبلون اختفاء آرائهم، ولا هم يخجلون ممّا أُعلن لديهم من قصص وحكايات ومعانٍ وألفاظ، تُسهم بأن تكون القسمة ليست ضيزى بينهم.. فلا يتجلّى "ذَكَر" المعنى هنا، ولا "أنثى" الألفاظ هناك.. بل يستوي هذا بذاك.
حاول العديد من الكُتّاب أن يخلقوا وهْمَاً مُناسباً في نصوصِهم؛ لإيهام القارئ المُراهق، فيقع ضحية هذا الوهم، من خلال ما يُضمّنه الكاتب من مصائد في اللغة، ليقع هذا القارئ بها ضحية من دون حذر، لأنَّ اللغة المُوهمة تضجّ بالألفاظ المُغرية من دون انغماس بالمعنى المُراد.
يفترض الكُتّاب بجميع الاتجاهات، تصوّرات غامضة بملامح واضحة، أو العكس تصوّرات واضحة بتجليات غامضة، فيذكرون ما يروق لهم من دلالات، وما يبتغون من مضامين، فيُمسكون القارئ بحبال من الوهم اللفظي، يُخدع به القارئ غير المتأني في استقبال اللغة، أو غير العارف بأسرارها، أو غير المُتحكم بنوعية القراءة، فيقع ضحية الكاتب المتأنق لِلغته وألفاظه ومعانيه، فيتشابه القارئ في تقلباتهِ، وفي هفواته، فعندها سيرى الأشياء بمستوى فكرته التي آمن بها.
يتعمد الكاتب أحياناً في تحديد عمله الأدبي أو اللغوي على سبيل المثال، من خلال فرضيات تجذب استجابة المتلقي "الضحية"، ليكون تحت وطأة لغته، لا الخروج عنها، وهو بهذا، القارئ، لا يصنع رؤية جمالية ولا يحقق إدراكاً جماليّاً، بحسب رأي الناقد فولفغانغ آيزر الذي يرى أن العمل الأدبي يمتاز بقطبين، الجمالي والفني، فالقطب الفني هو نص المؤلف، أما القطب الجمالي هو الإدراك الذي يحققه القارئ، لذلك يتقيّد القارئ هنا في تحقيق رؤيته التي من المفترض تحقيقها.
وقع العديد من القرّاء ضحايا التلقي لأوهام عدد من الكُتّاب أو الشعراء، فتأثّروا بهم، وآمنوا بما كتبوا، مع أن نِتاج هؤلاء الكُتّاب أو الشعراء لم يكن حقيقة علمية مُتكاملة، بل محاولة إظهار المسكوت عنه بطرق فضفاضة، تُؤثّر بعقل المتلقي الخاوي، ليكون ضحية تلك النصوص المُنمقة بطرق مفعمة بالوهم.
نلاحظ مدى تأثير هؤلاء الكُتّاب الذين خلقوا أنواع الشِباك من الوهم الثقافي، من أجل التأثير المباشر بهؤلاء القرّاء، فنجدهم، أي القرّاء، منطوين تحت وطأة كتاباتهم، فصاروا قالباً متشابهاً في التفكير أو السير بالاتجاه المُشابه، ليكون القارئ مُقلداً أعمى، لا يُبصر من الكلمة إلّا بما هي، فيرى الوهم حقيقة، والعكس ليس صحيحاً ربما، لذلك نجد عشرات الكتب من هذا النوع تهيمن بصورتها المُغزية رفوف المكتبات أو أكشاك القرطاسية، لتكون وجبات سريعة للقراءة المهيمنة على العقل في عماه، وحوله، في طفولته، ومراهقته، في غروره ولؤمه، وهكذا تكون الكتب غير الناضجة فاتحة أفواهها للمارة، وهم مثل "الأطرش" في القراءة.
نحتاج إلى قارئ يعي ما يقرأ، ويهيمن بوعيهِ على النص، لا العكس، فكم من قارئ تُهيمن على عقليتهِ وتفكيرهِ النصوص الصانعة للوهم، النصوص الكاذبة باتساعها، وغير الصادقة في ضيقها، كم من كاتب حاول خداع متلقيه، فيحاول تقريب ما هو بعيد لهم، ويُبعد القريب إليهم، فيظلّ القارئ منجذباً إليه، من دون وعي أو إدراك.
نحتاج إلى قارئ لا تستهويه الكتابة بسهولة، بل يتعب، يُتخيل إليه وكأنه مزارع اللغة، يشقى بحرثها، وزرعها، وحصادها، ليكون القارئ الحاذق باللغة، لا الهاوي الخاوي بها، وبالمقابل نحتاج إلى كاتب يخلق النصوص "الواعية" بتجلياتها، ورؤيتها، ومن ثم تكون ذا رؤية تُصنع بحقيقة تامة، لا أن تُضفر بصورة خادعة.