تفكيك عهد الوحدة

ثقافة 2024/12/17
...

 ميادة سفر

وضع المؤرخ السوري سامي مبيض عهد الوحدة بين سوريا ومصر على طاولة النقد، في كتابه "عبد الناصر والتأميم.. وقائع الانقلاب الاقتصادي في سورية" الصادر عن دار الريس في لبنان، مسلطاً الضوء على الأخطاء التي ارتكبت في تلك المرحلة من تاريخ سوريا، لكن من وجهة نظر
أخرى.
وجهة نظر أصحاب المعامل والشركات الذين طالتهم يد التأميم بالقرار الشهير الذي أصدره الرئيس جمال عبد الناصر في العام 1961، بعد وعود من قبله بأن لا صحة لما يجري الحديث عنه من تأميم المصانع والشركات والمصارف، فهل تم خداعهم؟ أم إنهم لم يتمكنوا من قراءة ما بين السطور جيداً؟ ولم يريدوا أن يصدقوا أنه بعد صدور "قانون الإصلاح الزراعي" بعيد إعلان الوحدة بأشهر سيأتي الدور عليهم، بالقرار الذي سيشكل الزلزال الذي ضعضع أساسات البنيان الاقتصادي الناهض حديثاً في سوريا التي لم تكد تنفض عنها غبار الاستعمار، حتى جاءتها تلك القرارات التي أوقفت الكثير من الأعمال وجمدت عدداً من المشاريع، فهاجرت الأموال المتبقية مع أصحابها أو أبعدوا؛ نتيجة خلافات سياسية سيحكي عنها المؤلف في هذا
الكتاب.
حول كل تلك الأمور والقضايا وبحثاً عن لمحات كانت مشرقة في تاريخ الاقتصاد السوري يبحث سامي مبيض ابن الأسرة الدمشقية التي يصفها بالمتواضعة والتي امتهنت التجارة، وينبش في التاريخ السوري عموماً والدمشقي خصوصاً عن قصص أولئك الصناعيين والتجار، ليميط اللثام عن كثير من التفاصيل والأحداث والشخصيات التي أسهمت إلى حد كبير في النهضة الاقتصادية التي بدأت تشهدها البلاد مطلع القرن العشرين، إلى أن كان اليوم التاريخي حين صدر قانون التأميم الذي وصفه البعض بالمشؤوم، وهلل له ورحب به آخرون من عمال اعتقدوا أنهم سيحصدون ثمرة جهدهم الذي يبذلونه أمام أرباب عملهم، وسياسيين وجد بعضهم أنها اللحظة المناسبة للانتقام من أصحاب الأملاك والأموال، في تراجيديا غريبة وغير مفهومة أحياناً يسرد سامي مبيض تلك اللحظات من تاريخ بلاده، متحسراً عليها حيناً ومضيئاً على معالمها الاقتصادية المشرقة حيناً آخر.
معتمداً على الكثير من المراجع التي تحمل ذكريات وذاكرة أشخاص عايشوا تلك المرحلة المفصلية من تاريخ سوريا، فضلاً عن مقابلات مع عدد من الشخصيات التي ما زالت على قيد الحياة أو أحفاد صناعيين وتجار وملاكين أدلوا بدلوهم وأبرزوا وجهة نظرهم وأزاحوا الغبار عن بعض الوثائق الأسرية، في كتاب يؤكد فيه مؤلفه أنه لا ينوي ولا يريد نسف الرأي الذي يقف مع العمال والفلاحين والذي أسهب كثيرون في الحديث عنه، أمثال حنا بطاطو البروفيسور الفلسطيني الأميركي، وغيره كثيرون، إنما أراد المؤلف وفقاً لقوله أن يقترب من موقف الطرف الآخر، صاحب الأرض المؤممة والمعمل المصادر والمصرف المستملك، ممن تعرضوا للظلم حسب رأيه.
سيحكي الباحث الدمشقي سامي مبيض حكايات شركات أُسست ومصانع بُنيت ومصارف أُطلقت، عن ظروف نشأتها وتطورها، من ثم في وقت لاحق سيطرة الدولة عليها في زمن الوحدة وفقاً لقانون التأميم الصادر بالقرار 117 عن رئيس جمهورية الوحدة جمال عبد الناصر والممهور بتوقيعه وبترويسة "باسم الأمة" التي كان يفتتح بها قراراته المصيرية، كما حمل الكتاب حكايات وسير كثير من الشخصيات المؤسسة للنهضة الاقتصادية السورية، عن تأسيس الشركة الخماسية التي ما زال بناؤها قائماً رغم تعرضه لبعض الدمار خلال الحرب الإرهابية الأخيرة على سوريا، و شركة السكر و"الكونسروة" ومعمل الغزل والنسيج في حلب، فضلاً عن عدد من البنوك والمصارف الخاصة التي اختفت كلها بعد قانون التأميم، على الرغم من وعود "الانفصاليين" بإعادة النظر بذلك القانون وإعادة الأملاك إلى أصحابها، إلا أن أياً من ذلك لم يحدث، ولم يعد التجار ولاحقاً الصناعيون إلى الواجهة وترفع القيود عنهم إلا بعد عام 1970 وصدور قانون الاستثمار رقم 10 الذي شجع على عودة الكثير من رؤوس الأموال السورية إلى البلد والمساهمة بإعادة بناء الاقتصاد السوري في مختلف جوانبه.
قد لا يجد البعض سامي مبيض منصفاً في سرده لكل تلك القصص والحكايات والأحداث، وقد لا يتفق معه الكثيرون ممن ما زالوا ينتهجون الناصرية عقيدة، إلا أنه كتاب جدير بالقراءة ولعله كما قال مؤلفه "يحرض القارئ على التفكير في الوحدة، التي تمناها كل من عاشها أفضل"، وربما الاستفادة من تلك التجارب التي سبقت الوحدة وقانون التأميم، لا سيما تلك المبادرات الأهلية والتعاون الاقتصادي الذي أسفر عن كثير من المشاريع، فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى مبادرات تعيد الأموال السورية إلى وطنها بعد أن هجرها الإرهاب واستقطبتها دول أرادت لاقتصادها النهوض والثراء بخبرات السوريين التي توارثوها عن أجداد لم يدخلوا الجامعات ولم ينالوا الشهادات من جامعات أوروبا وأميركا، بل تعلموا فنون العمل من سوق الحميدية ومدحت باشا والبزورية في دمشق، فكانت لهم أخلاقهم وقيمهم الذي يشهد
لهم بها.