الكاتبة الإيرلنديَّة {إيدنا أوبراين}: كيف للمرء أن يتواطأ مع الشر

ثقافة 2024/12/18
...

أنثوني دي بالما


ترجمة: مي إسماعيل




الكاتبة الإيرلندية “إيدنا أوبراين- Edna O’Brien” غزيرة الإنتاج، وكتاباتها مثيرة وصريحة، تتحدث عن استكشاف الحياة والمشاعر الضائعة لنساءٍ أحببن رجالاً غير مخلصين أو فظّين؛ مما أكسبها سمعة أدبية تحاكي مَسِيرات الحيوات المعقدة لبطلاتها التراجيديات. كتبت أوبراين عشرات الروايات ومجموعات القصص القصيرة في مسيرة أدبية امتدت لنحو ستين سنة؛ بدأتها عام 1960 بكتاب “فتيات الريف” الذي تناول التناقضات العاطفية لفتاتين أيرلنديتين تتمردان على تربيتهما الصارمة. كما صوّرت كتبها نساء عنيدات ولكن غير مستقرات؛ يحببن رجالاً قساة أو غير مخلصين.

تضمنت الكثير من أعمالها المبكرة جوانب من السِير الذاتية؛ مما أثار لغطاً حول أخلاقياتها وأدى إلى هجمات شخصية ضدها في أيرلندا. وحينما نُشِرت أعمالها المُبكرة جرى اعتبارها من رائدات الأدب، وأعطى أسلوبها المميز صوتاً للنساء اللواتي لم يجرِ تصوير عواطفهن بمثل هذه الصدق من قبل. 

تقول الروائية الأميركية “ماري غوردون” عن أوبراين: “لقد تعلمتُ منها؛ خاصة طريقتها في الكتابة عن حول عمق المشاعر والمخاطر زمن الطفولة.. وقد وصفت نوعاً من جوانب حياة الفتيات التي لم يسبق الحديث عنها مسبقاً”.  لكن رغم جُرأة كتاباتها لم يجعلها ذلك قريبة من حركات حقوق المرأة؛ التي لم تستسغ  تصويرها لعازبين يعانون من سوء الحظ ونساء يائسات.. وتقبلت أوبراين ذلك الرفض وواصلت مسيرتها.. قالت أوبراين ذات مرة: “أنا لا أتفاعل بقوة مع الأمور التي يتفاعلون معها بقوة (مشيرة إلى المنظمات النسوية. المترجمة).. أنا أتفاعل بحرارة مع الطفولة والحقائق أو الأكاذيب، والتعبير الحقيقي عن المشاعر..”. 

شخصية أغنى من أن تكون حقيقية

حازت نتاجاتها على مدى عقود من الزمن على إشادة أكبر خارج أيرلندا مقارنة بوطنها؛ الذي غادرته نهائياً خلال ستينات القرن الماضي، وكان النُقّاد غير الايرلنديين يرون فيها تجسيداً لإيرلندا ذاتها. ولكن في وطنها الأم اعتبرها البعض شخصية أغنى من أن تكون حقيقية؛ وأطلق عليها أحد النقاد الأدبيين يوماً وصف “إيرلندية بصيغة مسرحية”!  أكسبها عملها نُقاداً ومؤيدين؛ فنالت عام 2001 جائزة “الإنجاز مدى الحياة” من منظمة القلم الأيرلندية، ثم جائزة “الإنجاز في الأدب العالمي” عام 2018 من مؤسسة القلم/نابوكوف (التي تُمنح كل سنتين). ولكن كان للنقد المبكر لأعمالها آثار طويلة الأمد؛ إذ أخجل كتابها الأول “فتيات الريف” عائلتها الريفية المحافظة وأثار حفيظة الكثيرين؛ حتى جرى منعه من النشر في ايرلندا، وكذا بالنسبة لكتب أخرى لها. لكن القراء والنُقاد في دول أُخرى (خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا ) وجدوا عملها مقنعاً ومؤثراً وصادقاً. ودافعت أوبراين عن نفسها قائلة: “أنا أؤمن بالحب ولكن ليس بالفجور؛ فالاثنان لا يتماشيان معاً. أنا إنسانة رومانسية، وأمثالي حكماء جداً في عقولنا ولكننا مضطربون جداً في قلوبنا..”. 

شعرت أوبراين أنه قد جرى الحكم عليها من خلال كتاباتها؛ وتلك الكتابات قد تكون واضحة وانفعالية ومحفوفة بالمخاطر أحياناً؛ أو مُنمَّقة وملتبسة فلا تصلح إلا لتزيين بطاقة مُعايدة! وكانت من أهم نتاجاتها حينما وظّفت بساطة الحياة الريفية لاستكشاف المشاعر العميقة. 

طفلة تحب الوحدة

ولدت “جوزفين إيدنا أوبراين” في 15 كانون الأول عام  1930، وطلبت يوماً في إحدى مقابلاتها أن لا يتم وضع عمرها على شاهد قبرها. عاش والداها في مزرعةٍ بقرية توامجراني الريفية في مقاطعة كلير؛ وقد وصفتها أوبراين بأنها.. “مكان مخيف وساحر للغاية”. كانت طفلة تحب الوحدة؛ رغم أن لديها ثلاثة أشقاء؛ واعتادت التجوُّل في الغابات قرب مسكنها وهي تحلم بالروايات وتملأ دفاترها بالقصص. دخلت الدير عام 1941 حيث بقيت لخمس سنوات، ثم انتقلت إلى العاصمة دبلن؛ وهناك توسعت قراءاتها وأرسلت قصصاً قصيرة إلى ناشرين بتشجيع من الروائي التشيكي- الأيرلندي “إرنست جيبلر”. تزوج الاثنان وفرّا من قيود المجتمع الريفي في الخمسينات؛ لكن الزواج لم يدم طويلاً، وبعد الطلاق أخذت أوبراين ولديها ورحلت إلى لندن. 

كتبت أوبراين عام 1960 روايتها الأولى وسبب شهرتها العالمية “فتيات الريف” خلال فورة من الإلهام دامت أسبوعين ونصفاً، التي تدور حول حياة الشابتين “كيت برادي” وصديقتها “بابا برينان”. كتبت أوبراين رواياتٍ أُخرى عن الصديقتين، وترسخت شهرتها الأدبية. كانت مآسي الحب الخط المركزي لأعمالها؛ حتى تساءل أحد النُّقاد يوماً: “لماذا حظ شخصياتها النسائية سيئ إلى هذا الحد؟”.. تعرضت بطلات رواياتها مراراً وتكراراً للخيانة والمتاعب بسبب الحوادث والأمراض؛ وغالباً ما جرى تفسير ذلك على أنه عقاب إلهي لتمردهن.. 

 نتاج أدبي غزير

نشرت أوبراين خلال مسيرتها المهنية أكثر من عشرين رواية طويلة وقصصاً قصيرة ومسرحيات وعدة أعمال غير روائية؛ بما فيها سيرة ذاتية قصيرة لجيمس جويس نُشرت عام 1999، و”بايرون في الحب” (عام 2009)، تناول المغامرات الغرامية للشاعر. كتبت الروائية والناقدة الأميركية “فرانسين بروس” عام 2019 عن قدرة أوبراين على.. “التسلل إلى عقول شخصياتها”؛ حتى عند الكتابة عن أشخاص وأحداث.. “بعيدة عن تجربتها الخاصة”.. لقد قدمت في “بيت العزلة الرائعة” شخصية قاتل من الجيش الجمهوري الأيرلندي، وشخصية قاتل متسلسل في “في الغابة” (2002)؛ وتدور أحداثهما في أيرلندا. وقالت الروائية الأميركية “جويس كارول أوتس” في نقدها لرواية “الكراسي الحمراء الصغيرة” المنشورة عام 2016 (التي تتحدث عن مجرم حرب هارب يُخفي شخصيته الحقيقية ويُقدّم نفسه كمُعالج طبي في إحدى القرى): “أوبراين ليست مهتمة بإضفاء مسحة الإثارة العاطفية على موضوعها، ورواية “الكراسي الحمراء الصغيرة” ليست رواية تشويق، وليست بالتأكيد رواية غموض أو إثارة؛ إنها شيء أكثر تحدياً.. عمل للتأمل والتوبة.. فكيف يمكن للمرء أن يتصالح مع تواطئه في الشر، حتى لو كان ذلك التواطؤ “بريئاً”؟”  

صراعات عالمية وأبدية

تحركت أوبراين عام 2019 (وهي في الثامنة والثمانين) بعيداً عن مساراتها السابقة في ايرلندا؛ فقدمت كتاب “فتاة”؛ رواية مؤلمة عن الفتيات اللواتي اختطفتهن جماعة بوكو حرام المتطرفة في نيجيريا عام 2014 وأساءت معاملتهن. سافرت الكاتبة الى نيجيريا لإجراء بحث حول الكتاب، وتحدثت إلى الضحايا وأدرجت بعض التفاصيل الواضحة عن محنتهن في كتابها.. تقول الجملة الأولى المروعة من الكتاب: “كنتُ فتاةً ذات يوم، لكنني لم أعد كذلك.. باتت رائحتي كريهة.. جفّ الدم وتكتل على جسمي وتمزّق ردائي.. أحشائي باتت مستنقعاً”.. حظي الكتاب بإشادة واسعة؛ لكن أوبراين تعرضت لانتقادات بسبب تناولها لموضوع غريب عنها بشكل واضح.. دافعت الكاتبة عن كتابها بالإصرار أن موضوع “الفتاة” يتجاوز مأساة الشخصيات الفردية ويعكس نفس نضالات النساء ضد الفقر والعنف والاستغلال الجنسي التي استكشفتها عدة مرات منذ نشر “فتيات الريف”، واعتقادها بأن مثل هذه الصراعات عالمية وأبدية، بغضِّ النظر عن مكان وقوع قصصها.. في مقابلة لها مع مجلة نيويورك تايمز عام 1989، قالت: “لا أعرف إذا كنت سأستمر أم لا؛ وكل ما أعرفه هو أنني أريد أن أكتب عن شيء لا يتبع نمطاً مُعيناً ولا يُقاد بأي فترة زمنية أو وجهة نظر صحفية.. أريد أن أكتب عن شيء ينطبق على أي وقت لأنه حالة من حالات الروح”. 

توفيت “إيدنا أوبراين” مؤخراً عن عمر ناهر الثالثة والتسعين، بعد معاناة من مرض السرطان.. وقد واصلت الكتابة يومياً حتى أثناء صراعها مع المرض، مستخدمة القلم والورق عادةً في الصباح الباكر، حتى تتمكن (كما ذكرت ذات مرة)..: “من الانتقال مباشرة من أحلامي إلى عملي.. “

صحيفة نيويورك تايمز الأميركية