اللارواية في {المدعوّ إلى مساء السيدة} لعلي بدر

ثقافة 2024/12/18
...


د. عالية خليل إبراهيم




 تكاد تكون رواية “المدعوّ إلى مساء السيدة” هي الأكثر راديكالية ضمن نتاج (علي بدر) الروائي في نظرته للتاريخ مثلما هي نظرته لجنس الرواية، بدر الذي عوّد قارئه على موجّهات محددة تقنية ودلالية تحكم نتاجه السردي ذلك ما يصرح به بأنه استيعاب لأثر موجات ما بعد الحداثة في الكتابة الروائية من تلك الموجهات اهتمامه بالدراسات الثقافية مدخله المفضل للولوج إلى عوالم السرد وليست الحكاية من تغريه بداية، فالمحاكاة لديه تأخذ بعداً تدنيسياً ساخراً بينما يبرز النسق النقدي الأدبي والثقافي جلياً فتعد رواياته بذلك ناقدة وشارحة قبل أن تكون أدبية بمفاهيم الأداء اللغوي والوظيفة الجمالية، ويظهر الراوي في سردياته أغلبها عدمياً تجاه مرجعيات الخطاب الاجتماعية منها الدينية والأخلاقية، نظرة رواته للحب والمرأة والجسد يشوبها التكرار ولا تتعدد بتعدد رؤى الشخصيات والبيئة والأحداث، وإذ لا يصح عند دراسة فنون المتخيل أن نعكس إيديولوجيا الراوي على قناعات المؤلف فإنَّ في تقنية التكرار ما يشي بهوية سردية نصية جامعة لنصوص المؤلف وقد بلغت ذروتها في هذه الرواية الصادرة عن دار الكا العراقية 2022 والتي سأجيب عن سبب وصفي لها بالراديكالية؟ 

النص التأسيسي للرواية هو مسرحية “في انتظار غودو” (لصاموئيل بيكيت) المضمون هو العطالة والخمول من وجه ثان الانتظار العبثي بما يحمل من دلالة غياب للفعل وعدم اكتراث بالزمن الحاضر وتشكيل وهم جماليات الزمن الاتي، انزياح أول من الرواية إلى المسرح ومن فن الكتابة النخبوي إلى الفنون الشعبية ومنها الدراما المسرحية، فقد قدمت القصة من خلال تبادل الحوارات الشفاهية من البداية وحتى النهاية وحوارها ليس عبثياً على شاكلة مسرح اللامعقول بل بالضد تماماً جاءت الحوارات واضحة ومباشرة وذات طابع سجالي مع ملاحظة المكتوب على صفحة غلاف النص عبارة “جورنال ليوم واحد في” إحالة مباشرة على الصحفية الحجاجية الواضحة. الراوي وهو الشخصية الرئيسة رجل أربعيني من أب عراقي يساري وأم روسية، هوية الرجل هجين من ثقافات عدة على شاكلة شخصيات المؤلف الذكورية في رواياته السابقة ليست بالشرقية ولا الغربية، يعمل الراوي صحفياً غادر العراق هرباً من نظام البعث الذي يتهمه وعائلته بالانتماء للحزب الشيوعي يعيش الرجل غير المسمى رحلة اغتراب عن البيئة والثقافة العراقية يجوب أصقاع العالم مرتحلاً باحثاً في تلافيف وعيه المحبط عن فكرة يكتبها وامرأة يغازلها وكأس يتناوله “أبقى الليالي ساهراً في صوفيا حيث رائحة المطاعم التي تذكر بإسطنبول، السكارى في محطات القطارات، المرأة التي ودعتني، السلم المليء بالزهور في أمسيات بودابست قالت أنت تسافر كثيراً ومن يسافر كثيراً يذكر بماركو بولو”/24، يدور الكلام عن ماركو بولو وكتابه الشهير في أدب الرحلة، فالرواية من هذا المدخل سياحة أدبية في دول البلقان والتي تتشابه ظروفها السياسية والاقتصادية مع بلدان الشرق الأوسط. سيدة الرواية التقاها الراوي في رحلاته إلى رومانيا وعاش معها قصة حب، المرأة بالأحرى عشيقته، لربما واعد المدعو السيدة في المقهى أو توهم أنَّ هناك موعداً بينهما؟ وظل ينتظر حضورها حتى النهاية ولم تأت! تبقى للمواعدة الغرامية ومكان الانتظار المقهى دلالة رئيسة يتحرك مؤشر النص قريباً أو بعيداً عنهما فالأوهام والكتب والإيديولوجيا تطوح بالشخصيات بعيداً نحو تاريخ قادم مختلف لا يحمل قبحيات الزمن الحاضر بينما التحقق الواقعي لا يعدو امتلاء الحواس بالحب واستمرار الهذيان في المقاهي. أعد علاقتهما الراوي والسيدة تمثيلاً لعلاقة الشرق بالغرب وعلاقة اليسار العربي بنظيره في أوروبا الشرقية وروسيا.

في حالة غياب السيدة عن الحضور يتبادل الراوي الأحاديث مع صديقيه جان بيير وهاني، وكلاهما يساري، كان لهما نشاط سابق في المنظمات اليسارية المسلحة وباتا الآن متقاعدين يسلي الراوي نفسه معهما بالنقاشات السياسية وحكايا الشعراء والفنانين، نقاشات متواصلة من دون وجود حكاية تذكر فالحكاية قرينة ذاكرة ومخيال المقهى ورواده من المثقفين المتقاعدين عن العمل والذين يعتشاون على تبادل الآراء والاتهامات بينهم عن اليسار واليمين، الغرب والشرق، الزعماء والنساء والكتب. 

 وإذ يسترجع الراوي بداية علاقته بالسيدة يعيد صياغة أحاديثهما المتواصلة عن مالات الفكر اليساري وسيرة قادته منذ لينين مروراً بستالين وغوربتشاوف ويليسن حتى بوتين رجل روسيا الحاضر والاتي والذي يبتغي إعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي ويرجع العالم إلى توازن القطبين بعدما شوهته أحادية القطب الغربية بزعامة أميركا، وبما أنَّ الراوي قابل السيدة في رومانيا فقد جرى الحديث بينهما عن دكتاتورية تشاوشيسكو ودرجة الشبه بين حكمه ونظام صدام في العراق قبل سقوط الأول 1989.

دارت الأحاديث بينهما عن شخصيات فكرية وأدبية روسية إضافة للسياسيين، من أبرز تلك الشخصيات المفكر “الكسندر دوغين” الملقب بعقل بوتين وقد أفرد الراوي لأفكاره جزءاً من الرواية، “تتلخص فكرته أنَّ روسيا حضارة تللورية، حضارة متحصنة في أرضها ومكانها يقوم وجودها على المحافظة على تقاليدها”/121. المفكر في دعوته لنظرية سياسية رابعة تتغلب على الشيوعية والليبرالية والفاشية عنوانها الأوراسية وتتضمن تحالفاً جيو سياسياً بين آسيا وأوروبا الشرقية ضد الهيمنة الأميركية وحلف شمال الأطلسي بإمكانها أن تنعش أحلام اليسار بالتعددية الثقافية والتوازن الدولي كتبت رواية “المدعو إلى مساء السيدة” من أجل استعادة اليسار العالمي وجاءت على شرف “الكسندر دوغين” الذي لا يعرف القارئ العربي عنه الكثير وهو المفكر الروسي الثائر ضد الليبرالية الغربية وهيمنتها الاقتصادية والسياسية على العالم. من الشخصيات الأدبية التي أتت الرواية على سيرتها الشاعر الأميركي إليوت وعلاقته بزوجته فيفيان سلبيات وإيجابيات كل منهما، الشاعر والروائي الروسي إدوارد ليمونوف الصعلوك المتمرد الديمقراطي المختلف تماماً عن دوغين الدوغمائي، والروائية الفرنسية فرانسوز ساغان وقد خص الراوي رواياتها بنقد أدبي “لقد كانت وصفتها سحرية بحق، الجذب عن طريق النثر الحي الواضح والسريع، والمخيلة الخصبة والصراحة الفجة والإنشاء المغامر المعبر دون تزييف” /147. حضر النقد الأدبي مثلما حضرت الإشارة لمسرح العبث والكلام عن أدب الرحلة والسيرة والصحافة تلك سياحة أدبية وثقافية ممتعة ومسلية تتمحور عن مآلات أفكار اليسار العالمي بما يقنع المتلقي بأصالة هذا الفكر وأن لا غنى عنه للجمهور والنخب في حاضرها ومستقبلها وإن رافقت تاريخه الممتد الأخطاء والتراجع والنكبات، هل أذنت أفكار ما بعد الحداثة بموت الحكاية بضمنها الروائية والقصصية؟ وإذ يذكر علي بدر اليسارية (فرانسوز ساغان) بإعجاب هل يطمح أن يكتب سرداً مشابهاً لما كتبته في ستينيات القرن العشرين، سرد فيه من التلقائية والشفافية والخروج على التقاليد الروائية. قدم علي بدر في روايته هذه تصوره الشخصي الخاص لسرديات ما بعد الحداثة في قلة ارتهانها للتجنيس وعدم اكتراثها بالحكاية والحبكة واستيعابها لأنماط تدوينية كتابية وشفاهية مختلفة.