د. كريم شغيدل
اعتاد مؤرخو الأدب ونقده تناول الأدب الرسمي "الرفيع" بوصفه ممثلاً لثقافات الشعوب وذائقتها ومزاجها الأدبي، وهو الأدب المكتوب عادة باللغات الأدبية الفصحى، ليعكس صور المجتمعات ويعبر عن همومها أو هويتها الرمزية، أما ما يطلق عليه بالأدب الهامشي أو أدب الهامش أو بتعبير أوسع الأدب الشعبي، فقد كان مهملاً إلى وقت قريب، فقد منعت الحكومة العراقية- على سبيل المثال- في العام 1974 نشر الشعر الشعبي، وهو قرار أريد له أن يأخذ بعداً أيديولوجيا، بذريعة الحفاظ على سلامة اللغة العربية، لكنه في حقيقة الأمر كان القصد منه قمع هذا النمط من الشعر لما ينطوي عليه من حس معارض يتقاطع مع فكر البعث الذي كان سائداً، ذلك أن أهم الشعراء الشعبيين كانوا ينتمون لليسار، وبالتزامن مع ذلك القرار تقريباً انتشرت في تلك الحقبة قصائد فلاح عسكر التي تمتدح النظام عن طريق أشرطة التسجيل "الكاسيتات"، وفي مطلع الثمانينيات مع بدايات الحرب العراقية الإيرانية، سرعان ما عدل النظام عن قراره السابق، ليصبح الشعر الشعبي الممثل الأهم لإعلام السلطة وتمجيدها، والتغني بقيم العنف والدموية وتجميل القتل والدمار، إلى جانب المنبر الرسمي للقصيدة التقليدية لشعراء السلطة، والمنبر الرسمي لا يزال يحتفي بالقصيدة التقليدية بشقيها "العمودي والتفعيلة"، كافتتاحيات مهرجان المربد بعد سقوط النظام، على أننا لسنا معنيين هنا بالشعر الشعبي المكتوب باللهجة العامية الدارجة؛ وإن كنا ندعو لدراسته بوصفه منتوجاً ثقافياً أنتج انساقاً مؤثرة في ثقافة المجتمع.
لقد شاع مصطلحا المركز والهامش لتفكيك بعض الظواهر، ووردت مادة "همش" في مختلف المعاجم العربية بمعانٍ مختلفة، وبعض هذه المعاني تحيل إلى المعنى الحرفي للمصطلح، لا سيما ما يدل منها على الإهمال وعدم الاهتمام، وقد يوظف المصطلح اجتماعياً ليحيلنا إلى مفهوم "الاستبعاد الاجتماعي" الذي نشأ بداية الأمر في فرنسا ليشير إلى الأشخاص الذين استبعدتهم الدولة عن النظام البسماركي للضمان الاجتماعي وهو عكس الاندماج، كما أنه يعني بعض الطبقات المعزولة قسرياً أو اختيارياً عن نسيج المجتمع.
يمكننا تشخيص مستويات عديدة لمصطلح الأدب الهامشي، ذلك أن جميع النتاجات الثقافية من شعر شعبي وأغانٍ وحكايات ساخرة ومسلسلات وأفلام سينمائية ومزح وكنايات ونكت وحزورات وغيرها تعد اليوم ثقافات شعبية أو شعبوية، ويمكن أن نعد كل الشعر الفصيح المعارض للسلطة بمختلف أساليبه التقليدية والحديثة أدباً مهمشاً، ومن جهة أخرى يمكن أن نقول إن قصيدة النثر عموماً كانت وما تزال أدباً مهمشاً، بل إن البيئة الثقافية في العراق أنتجت أنموذجاً متكاملاً للتهميش، أي إنه يجسد هامشيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية شعراً، وذلك من خلال هيمنة دلالات الحرمان والكبت والشعور بالإقصاء، ونجد بأنه من أهم نماذج الأدب التي يمكن عدها هامشية، فبحسب زعمنا إنه أنموذج متكامل يتساوى فيه النص الإبداعي بمبدعه، فتكون الذات الشاعرة موضوعاً، وتكون اليوميات المأساوية صوراً شعرية، وتنحاز اللغة إلى المحكي لتكتسب أدبيتها أو شعريتها من انزياحات جديدة غير معنية بالتركيب المجازي أو الاستعارة والكناية، وقد تنحدر إلى مستوى
المحظور.
إن اهتمام الباحثين بالأدب الرسمي شيء طبيعي، فالأدب يراد به تاريخياً أن يعكس رقي الشعوب ومنجزاتها الحضارية، والأدب الرسمي عادة ما يكون مرخصاً به من لدن السلطة ومقبولاً عندها ومتوافقاً مع وجودها وميولها الأيديولوجية، بينما يشكل الأدب الهامشي في غالبه الأعم وسيلة معارضة على مر التاريخ، لأنه يمثل ميول العوام والمتمردين والمجانين أو دعاة الجنون والصعاليك والشطار والعيارين وما إلى ذلك، ومهما ركز مؤرخو الأدب ونقاده على الأدب الرسمي "لا يمكن للتاريخ الأدبي إلا أن يصطدم، في يوم من الأيام، بمسألة الآداب التي اعتبرت، بداهة، آدابا هامشية مثل الآداب الإقليمية والشعبية وآداب البلاد المستعمرة في الماضي والمكتوبة بلغة المستعمر، ناهيك عن نصوص أخرى تفتقد إلى النظام" كما يقول برنار موراليس، وقد اتسع في الآونة الأخيرة اهتمام النقاد والباحثين بثقافة الهامش عموماً، لا سيما أن النقد الثقافي ليس نقداً أدبياً في حقيقته، ولا ينظر للنص الأدبي المصنَّف رسمياً إلا بكونه واقعة ثقافية، وليس منجزاً جمالياً، بل ينصبُّ جلُّ اهتمامه على الثقافة الشعبية وما تنتجه من أنساق الهيمنة الأيديولوجية/ المؤسساتية، والأنساق المضمرة المسؤولة عن الكثير من المعطيات الثقافية السائدة في المجتمعات، ذلك أن النقد الثقافي نشاط لتطبيق المفاهيم والنظريات على الفنون الراقية والثقافات الشعبية واليوميات الحياتية والموضوعات الأخرى المرتبطة بذلك، ولعل الأدب الهامشي بوصفه ظاهرة ثقافية أنتجها سياق ثقافي عام يرتبط بما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي، هو الأقرب لحقل الدراسات الثقافية من الأدب الرسمي.
يمكننا إيجاد أنماط هامشية مختلفة، فثمة نص يتناول حياة المهمشين، ويجسد يومياتهم، أو يعالج قضاياهم، كالكتابة عن الفقراء والمساكين والعمال والعبيد وغيرهم مما كان يطلق عليه (البروليتارية الرثة) وهناك من يكتب عن طبقات مهمشة كالمومسات والمعاقين والمجانين، وهنا تجدر الإشارة إلى قصيدة بدر شاكر السياب الشهيرة "المومس العمياء" وقصيدة "رجل وامرأة" ليوسف الصائغ التي تتحدث عن شخصين أخرسين، الأولى تناولت شخصية مستبعدة اجتماعياً لأسباب اجتماعية واقتصادية وأخلاقية وعرفية ودينية، والثانية تناولت شخصيتين مهمشتين أو معزولتين عن المجتمع بسبب إعاقة قسرية أو خلل فسلجي، وهناك نصوص روائية وقصصية وليست شعرية فحسب، تناولت الطبقات الدنيا المهمشة التي تعيش في مناطق عشوائية، وهناك تهميش من نوع آخر، يمكن أن نعده سياسياً، كقصائد المعارضين السياسيين، بينما هناك شعراء عانوا فعلياً من التهميش أو لنقل العيش على الهامش، أو العزلة، كعزلة محمود البريكان، الذي وجد نفسه خارج قائمة الأدب الرسمي بصورة اختيارية، كذلك عزلة عبد الرحمن طهمازي، وكلاهما لم ينشر سوى نصوص محدودة، هناك تهميش اختياري آخر يمثله شعراء المنافي، مقابل ذلك عرفت الأوساط الثقافية في العراق نماذج كثيرة من الشعراء الذين اختاروا العزلة أو اضطروا لها، أو عانوا التهميش والإقصاء، واستطاب لهم العيش على حافة الحياة أو هامشها، مجسدين نوعاً ما حياتهم الحافلة بالتمرد والخروج على السائد، كعبد الأمير الحصيري وحسين مردان ثم تبعهما جان دمو ولحقته مجموعة من شعراء السبعينيات والثمانينيات ممن أطلق عليهم
"الصعاليك".