سامر المشعل
يعد الغناء وثيقة ذوقية مسموعة تعكس الأجواء الروحية والنفسية والعلاقات الاجتماعية والإنسانية والعاطفية لمرحلة معينة.
الغناء خطاب ذوقي جمالي ناتج عن تفاعل جملة مواهب تعتلج في روح الشاعر والملحن والمطرب والموسيقي.. فهي أي الأغنية لغة المشاعر والأحاسيس للقوى العقلية العليا للإنسان والتي يتميز بها عن الحيوانات وسائر المخلوقات، وتصاغ بأجمل تعبير فني ووجداني.
كانت الأغنية تمر بمخاضات عسيرة من أجل أن تكتمل ولادتها الإبداعية، بأجواء تشع بالصدق والموهبة.
فنتلمس جمال الأغنية البغدادية بما فيها من غنج ودلال ورقة المشاعر بخطاب عاطفي يتماوج مع عذوبة نسائم دجلة. وعلى مقربة نستمع إلى المقام العراقي، الذي يعبر عن شخصية القارئ البغدادي الذواق والسميع بكل أنفة وكبرياء وهو يشدو مترنماً بصوته القوي بالزي البغدادي بمرافقة
الجالغي.
فالمقام العراقي أقرب ما يكون إلى الإنشاد الديني والمناقب النبوية، ومنهما استمد هيبته ووقاره.
إلى جانب ذلك، هناك الأغنية الريفية والمواويل الحزينة التي ترافقها بحة الصوت وترجيفاته التي تحيلك إلى عالم افتراضي يحلق بك بأهوار الناصرية والعمارة، فنتسم رائحة شواء الخبز بتنور الطين وأصوات الطيور وخفق أجنحتها وحفيف الأشجار.
كذلك أغاني الخشابة البصرية والنّهامة التي تأخذنا بسياحة طربية إلى شط العرب وأمواج البحر حيث أغاني اليامال والسامري والخشابة. التي تشيع جواً من البهجة
والانتشاء.
هذا بالإضافة إلى الأغنية البدوية التي تعبر عن البيئة الصحراوية والبادية بأصدق تعبير من خلال الألوان الغنائية التي تكشف عن طبيعة سكان هذه البيئة وعلاقاتهم العاطفية المتأججة مثل العتابة والنايل والسويحلي بمرافقة عازف الربابة.
مع وجود الأغنية الكردية، التي تكشف عن طبيعة الحياة الجبلية بما فيها من جمال وتنوع على أنغام الدبكة الكردية الفرحة. هذا فضلا ًعن الأغنية الموصلية والتركمانية والاثورية والآشورية..الخ.
هذا التنوع الجميل الذي كان يرفد الأذن العراقية ويغذيها بمختلف ألوان الطرب العراقي بكل صدق وجمال الموهبة، والأغنية العراقية تكشف عن مفاتنها باغراء حسي لا يقاوم بما فيها من تنوع بيئي وجغرافي يشكل برمته ثراءً غناسيقياً من النادر أن يتوافر ببلد آخر.
للأسف اختفى هذا التنوع وجفت ينابيعه، وبعض الألوان والأطوار والمقامات باتت مهددة بالانقراض ولم تتنبه وزارة الثقافة ودائرة الفنون الموسيقية والمؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالفن والتراث إلى خطورة اختفاء الإرث الغنائي العراقي، وأخذ الجيل الجديد يفتح نوافذه للغناء الهجين والمستورد والمشوه.. الفاقد للروح العراقية.