عبدالامير المجر
يقول المثل الصيني “إنك لا تستطيع أنْ تمنع طيور الحزن من أنْ تحلِّقَ فوق رأسك، لكنك تستطيع أنْ تمنعها من أنْ تعشش في شعرك”.. عندما زار السادات القدس في العام 1977 كانت مشاعر غالبية العرب مستفزة، والتظاهرات التي عمَّتْ المدن من الدار البيضاء الى بغداد، لم تكن فقط من صنع الحكومات، ولم تكن للاستهلاك الإعلامي وامتصاص النقمة، وان كان ذلك في بال أغلب الحكام العرب، وإنما وجد هؤلاء الحكام أنفسهم وسط سيلٍ جارفٍ من الغضب الجماهيري، فسايروه واستثمروه سياسياً لتسويق أنفسهم، بمعنى أنَّ الموقف الشعبي العربي من قضية فلسطين لم يكن منافقاً، لكنَّ النفاق كان ولا يزال رسمياً.
نعم، هناك ثوابت وخطوط حمراء دوليَّة، ومن ضمنها اسرائيل ووجودها الذي فرضته إرادة الكبار في لحظة تاريخيَّة، كان العرب، بفعل عجزهم البنيوي، وقتذاك، خارجها، لكن مرحلة ما بعد التقسيم، شهدت مواقف وسياسات اسرائيلية، لم يكن التصدي لها ضمن الخطوط الحمراء الدولية، وإنما هناك هامش مناورة كبير للعرب، كان بإمكانهم العمل فيه ومن خلاله، لتحقيق مكاسب على الأرض، تعيد بعض الحق في الأقل. لكنَّ انقسام الحكام بين ولاءات دولية مختلفة، جعلهم في حالة عداء دائم لبعضهم، وصار هذا الاختلاف لا يضعف موقفهم تجاه قضية فلسطين فقط، وإنما أضعف دولهم وفرّق الشعوب وأشاع ثقافة اليأس والإحباط، الذي وصل ذروته بعد نكسة حزيران 1967 التي لم يتجاوز العرب تداعياتها حتى الآن، لا سيما بعد أنْ كرست مفهومين متناقضين، الأول يتحدث عن ضرورة رد الحيف والحسم العسكري، والثاني يقول بضرورة الاعتراف بالأمر الواقع والاعتراف باسرائيل وتسوية المشكلة سلمياً بأي ثمن، ولم ينجحوا في بلورة رؤية ثالثة، مدعومة بموقف حقيقي وموحد، تقوم على مبدأ الاعتراف مقابل الإقرار، أي الاعتراف باسرائيل، مقابل الإقرار بحق العودة للاجئين الذين هجروا من بيوتهم ظلماً وتعسفاً خلال حربي العام 1948 و1967 لإحراج اسرائيل ومن يقف وراءها أمام الرأي العام الدولي، الذي كانت مساحة التأييد فيه للقضية الفلسطينية واسعة، لا سيما بين قوى اليسار العالمي، خلال الحرب الباردة.. ما يجب أنْ نعرفه، ان الاتحاد السوفييتي لا يستطيع أنْ يتفاعل مع الموقف العربي الداعي الى محو (اسرائيل) من الخارطة، ولذلك بقيت قضية التسليح السوفييتي للعرب خاضعة لهذه الستراتيجية المتصلة بوضع دولي أكبر وأكثر تعقيداً، ولكن الاشتغال على قضية اللاجئين والعودة الى حدود العام 1967 وحسم قضية القدس التي ظلت معلقة بعد التقسيم، لغاية صهيونية، كشفتها لاحقاً، سياسة قضمة بعد قضمة! سيكون ممكناً، فعودة اللاجئين وقتذاك يخلق خللاً سكانياً، يحسم الوضع سلمياً لصالح العرب في (اسرائيل) وهو ما كانت تخشاه الحكومات الاسرائيلية، وعملت ضده بمختلف الأساليب، إضافة الى تهجير يهود البلدان العربية الى اسرائيل بطرق وأساليب مختلفة لتخلق تفوقاً ديموغرافياً لصالحها، بمعنى أنَّ اسرائيل كانت تتخذ إجراءات واقعية، حققت تفوقها، بينما لم ينتبه العرب لذلك، ولم يرسموا ستراتيجية حقيقية وواقعية، تقنع السوفييت والعالم بدعم رؤيتهم تلك، ووسط هذا الانقسام العربي، صار الداعون للتسوية يقيمون علاقات سريَّة، غير رسميَّة مع اسرائيل، ويتعاطون معها، بينما يحرّم ذلك الداعون الى تحرير فلسطين كلها، وإنْ كان موقف بعضهم هذا، يأتي في سياق الضغط ورفع سقف المطالب.. استمر الخلاف واستمر معه الضعف، حتى وصلنا بعد حرب التحريك، وليس التحرير، في تشرين/ اكتوبر 1973 الى زيارة السادات الشهيرة، ليحرج الجميع، ويضعف الجميع، ويضع القضية كلها في مأزق حقيقي، لأنه بذهابه الى اسرائيل وليس الى دولة ثالثة، فرنسا مثلاً، تجمعه برئيس الوزراء الاسرائيلي، وللقدس وليس الى تل ابيب، كرّس الرؤية الاسرائيلية التوراتية، في كون القدس (اورشليم) عاصمة لاسرائيل.. ومن تلك الزيارة توالدت التداعيات اللاحقة. فالاردن ودول المواجهة الاخرى، صارت تتعامل مع اسرائيل بوصفها دولة جارة، وان لم تقر بهذا علناً، ويجب أنْ تحسم خلافها معها بصورة فرديَّة، او هكذا بات المشهد العربي في آخر تجلياته المريرة، وبذلك سقط تدريجياً الحاجز النفسي وصار عموم العرب يتقبلون الأمر ويتعاملون معه، وكأنه شيء طبيعي.. الانقسام الفلسطيني عزز هذا الأمر، ووجود رؤيتين في رام الله وغزة، تختلفان تماماً في كيفية التعامل مع اسرائيل، أعطى الأخيرة فرصة سياسيَّة لتقديم نفسها على أنها دولة تريد السلام مع من لا يمتلكون إرادة السلام.. التدخل الإقليمي فاقم الانقسام وأضعف القرار السياسي للفلسطينيين، حتى غدت القضية ورقة سياسيَّة تستخدمها قوى عربية وإقليمية في مناوراتها السياسية ولتسويق نفسها إعلامياً على أنها الراعية لها والمعنيَّة بها، مع أنَّ تقدماً حقيقياً على الأرض لم يحصل، وظلت القضية تتراجع، قبل أنْ يعصف (الربيع العربي) بما تبقى منها، إذ أصبحت أكثر من دولة عربية غارقة في مستنقع من الكوارث، وهذه بالتأكيد لم تأت اعتباطاً، وإنما في سياق خطة محكمة، أعدت في الغرف المظلمة، لتهيئة الأرض والنفوس معاً، وها نحن نحصد الثمار المرة لسياسات غير حكيمة ولا مسؤولة، وإنَّ ما يعرف اليوم بـ”صفقة القرن”، هو نتيجة طبيعيَّة لهذا المسلسل التراجيدي الطويل..
نعم لم يكن بإمكان العرب طرد طيور الحزن التي حلقت فوق رؤوسهم قبل أكثر من سبعة عقود، لكنهم وللأسف جعلوها تعشش وتفرّخ أيضاً في شعر رؤوسهم وصدورهم، وهم يتلقون نقرها وذروقها يومياً، بصمتٍ. وربما بأسفٍ أيضاً!