الشعريَّة وميزان الاشتغال
علي لفتة سعيد
مفهوم الشعر تعطيه الجملة الشعريَّة، فهي صانعة الحدث وصانعة المعنى، وهي أسّ الانتاج الشعري والأدبي عموما، وحتى الصحفي والتحقيق والمذكّرات وغيرها من الاشتغالات الكتابية. فالجملة مهاد كل شيء، وهي التي تعطي أثر التلقي، لأن فيها تأثير المحاكاة والإزاحة، والمبدع من يستطيع أن يجعل من جملته، لها مكانها المضيء الذي يملك قوة السطوع العابر لمنطقة الإضاءة. فالإبداع الأدبي يعني تجاوز منطقة الإضاءة إلى القدرة على الغوص في ثنايا التأثير خارج المنطقة.
لذل فإن الشعر ليس كلمات فحسب، بل ما تحمله هذه الكلمات من شاعريّةٍ مخبوءةٍ في المعاني، التي تضيؤها طريقة الاشتغال، فتكون الجملة حاملةً لشعريتها، وبالنتيجة حاملةً لجمالها ودهشتها. وإذا كانت القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة تضم الشعريّة بين ثنايا المفردات المؤلّفة للبيت الشعري، أو حتى لأبياتٍ محدّدةٍ، أو جزءٍ من إيقاع القصيدة التفعيليّة وأسطرها، فإن الشعرية في قصيدة النثر لابد أن تكون متفاعلةً مع الجسد الكلّي للنص، حيث بمجموعها، وما تمكّن المتلقّي من حصاد جني محصول القراءة، تعطي الجمل شاعريتها ومكانتها العليا، محملةّ بالفكرة بالجدوى والدهشة والتفكير.
فقصيدة النثر لا تعني أنها مجرّد كلماتٍ وتراكيبٍ مزاحة، ولها موسيقاها الداخلية، وما تعيطه من إيجازٍ أو اقتصادٍ، كونها ببساطةٍ لا تخضع إلّا لحالتي القدرة على البناء، الذي يتمتع به المبدع، وليس "مسطّر" الكلمات، والفكرة التي يحملها هذا البناء، ليؤلّف قصيدة قد تكون طويلةً، أو مختصرة أو لها سطرٌ شعريّ مزدهمٌ بالكلمات، أو له سطرٌ تكوّن من كلمةٍ أو كلمتين. فكلّ شاعر متمكّن له طريقة في الكتابة الشعريّة والاشتغال التدويني.
إن الشعريَّة في النصّ هي المرحلة الجمالية التي ترتبط بالإنتاج المخيالي للشعر، وهي التي تجعل من النص الشعري، ما يبقى مفتوح الأبواب، مشعًّا للتلقّي والتأويل، وقد تحمل قصيدة النثر من الشعرية، ما لا تجمله أنواع القصائد الأخرى، كونها تعتمد على كيان النصّ الكلي. بمعنى أن النصّ النثري، هو النص المخيالي الكلّي، الذي لا يمكن تجزئته، لكي يمكن الوصول إلى الشعريَّة.
وقد عرف الدكتور صباح التميمي في كتابه "شعريّة الخطاب الروائي في سواقي القلوب" ما يعدّه تعريفًا (هي كلِّ ما يجعلُ من النصِّ النثريِّ نصّاً شعرياً، فالصورة البيانية المُسَمْيَأَة، والتركيب المُزاح النادر، والإيقاع الداخلي المُثير، والاقتصاد اللغوي المُؤدّي للإيجاز، والجملة المضغوطة لفظاً، المتشظية معنىً، وكلُّ ما يقتربُ بالكائن النثري من منطقة نقيضِه -عربياً- الشعر)
وهو تعريف يدخل ضمن التعاريف التي تحاول اصطياد المعنى المتفرّع والمتعدّد لشعريَّة قصيدة النثر. بالرغم من أن الشعريّة لا تعتمد فقط على الجسد الكلّي، بل تعتمد على ما تشكّله الجملة الشعريّة النثرية من فاعلية الاشتغال والتكوين للمعنى والقصد، والحاملة لعناصر التأويل والدهشة. فالجملة أساس البناء المعماري لشكل النصّ النثري. والجملة مهادٌ وزرعٌ يخضرّ، لتشكيل حديقة النصّ، أو حتى غابته. ويذكر التميمي أيضا (ولما كانت شعرية الصورة تتجلّى "بيتياً" في قصيدة العمود، و"سطرياً" في قصيدة التفعيلة، فإنها تتمظهر وتنضج في قصيدة النثر "جُمَلِيّاً"، لا سيما في نماذجِها الناضجة، حيث تكون "الجملة" حجر الفعل الشعري الأساس بنائياً ودلالياً وسيميائياً وتصويرياً وإيقاعيّا) والذي يمكن عدّ هذا الراي مفتاح التفريق بين أنواع القصائد، وما تحمله من كيفيات الشعرية وأهميته في النصّ الشعري.
طرق الشعريَّة
الشعريّة لا تكون بنفسها ولا تولد لأنها مخبوءة بين الكلمات، وليست هي متوفّرة من خلال زراعتها في النصّ، أو الإتيان بها من خلال وحدة عناصر المفردات، أو أشياء جاهزة، بل هي تأتي عبر الاشتغالات التي تختلف من قصيدةٍ نثريةٍ وأخرى، ومن شاعرٍ إلى آخر. وهو الأمر الذي تختلف فيه قصيدة النثر في بناء شاعريتها عن قصيدة العمود أو التفعيلة. وهو ما نكرّره بهدف التأكيد على أن قصيدة النثر "الإبداعية" أكثر صعوبةً في الاشتغال لإنتاج نصّ شعريّ نثري، إذ لا ثوبٌ واحدٌ، ولا جسدٌ ولا شكلٌ واحدٌ، ولا طريقة تخليقٍ واحدة. فهي تتعدد بتعدّد ممكنات النثر من جهة، وتناسل وتسلّق ممكناتها من جهةٍ أخرى. ولأن لا ثوابت لقصيدة النثر، إذن لا ثوابت لأشكالها واشتغالاتها. ولا يمكن حصر طرق الاشتغال التي يتّبعها هذا الشاعر أو ذاك. وهي دائما في مرحلة تجريب وتجديد وترتيب وإعادة. وبإمكان الشاعر المتمكّن المبدع أن يجترح شكلًا لنصّه وطريقة انتاج الفكر.، فبعضهم يعتمد على كلمةٍ في السطرٍ أو كلمتين، أو حتى سطرٍ شعري كامل. وبعضهم يشكّل نصه النثري على شكل كلماتٍ متقطّعةٍ أو على أشكالٍ هندسية، وآخرون يجعلون بين جسد النصّ فراغات أو أرقامًا أو نجماتٍ أو حتى عناوين داخلية. وغيرها من الأشكال التي يريدها أن تكون أي القصيدة عارضة أزياء الجمال الشعري. لكم السؤال. ما الذي يجمع هذه الأشكال؟
إن الإجابة لابد أن تتجّه نحو مصطلحٍ واحدٍ أو تأكيدٍ واحدٍ هو الشعريّة التي يتمتّع بها النصّ الذي يأتي به الشاعر، من خلال الاشتغالات التي تحمل هي الأخرى الكثير من التعدّد، سواء جاءت على شكلٍ سيميائي أو تحليلي، أو دائريٍّ أو بناءٍ معماري، من أجل تثوير الجانب البلاغي أو الجانب اليومي من الحياة. وهذه كلّها تعتمد على تجربة الشاعر ولغته الحاملة لكلّ معاني الشعريّة التي تنتج في النهاية شاعرية القصيدة الموزّعة على الجمل المؤلّفة للنص.
والشعريّة ترتبط بالشعر جذرًا واصطلاحًا بحسب الكثير من النقّاد والباحثين، بالرغم من اختلافه عن مفهومه التاريخي أو اللغوي أو التراثي، لكنها أيّ الشعريّة كما يقول أمحمد العماري في مقاله "مفهوم الشعريّة واتجاهاتها" المنشور في مجلة الحكمة للدراسات الأدبية واللغوية أن (مصطلح الشعرية يتضح أساسًا من خلال المسعى الذي تصبو إليه، حيث تسعى الشعريّة نحو البحث عن القوانين العامة التي تبني فرادة النص الأدبي كما أنها تبحث عن تلك القوانين داخل الأدب ذاته وليس خارجه) فإن الأجر الذي سيستحصّل عليه المتلقّي هو كميّة الشعريّة في النصّ النثري، وهي كميّات غير محدّدةٍ بالقول، وغير محدّدةٍ بالمعايير كما أسلفنا، لكنه على الأقل يعطي التوازن بين المعطى والمدلول، إذا ما تمكّن المنتج من توضيح المدلول، لأن الكتابة بحد ذاتها لا تعطي قيمًا أوّليةً أو إدارةً واعيةً للنصّ، أو منحها صفة الدهشة والقبول والتقبّل، دون وجود هذه الشعرية. وقد ذكر الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي تزفيتان تودوروف في كتابه "الشعرية" إذ يشير إلى أن الشعريّة (تقترب من عملية التلقي، أو القراءة، أو فلنقل التأويل. كما أنها تحاول أن تقدّم قراءة في إطار نظرية تستجيب لغاية علمية وفتية في آن واحد فهي تساير العلمية لأنها تقوم على الملاحظة والبرهنة ثم هي فنية لأنها تؤمن بأن العمل) وهو الأمر الذي جعل من الشعرية أن تكون مصطلحًا، لكنه يملك إشكاليته بحسب ما ذكر الناقد الجزائري يوسف وغليس في كتابه "إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد" بما يؤكّد ذلك حيث يقول (لقد أضحت الشعريّة من أشكل المصطلحات، وانغلق مفهومها وضاق بما كانت معه مجالا رحبًا تدافعت فيه الدراسات، والبحوث) لكنها بشكلٍ ما قد تكون مصطلحًا ولا قد تكون!! فهي مصطلحٌ لتقريب فهمها للمتلقّي أكثر منه إلى المنتج/ الشاعر. فالمتلقيّ كي يمسك الصولجان بطريقةٍ صحيحةٍ، ويفهم أن الشعريّة هي حاصل القراءة والتأويل والمعنى والتحليل.. وهي غير ذلك بالنسبة للمنتج، كونه ينساق وراء اشتغالاته التدوينية ولعبته الكتابية، وكيفية استخراج العلامات الدالة على الإمكانية الشعرية في تبويب الفكرة شعريًا، خاصة وأن العلاقة بين الشعر انتاجًا وبينه وتلقيًّا، ترتبط بالشعور الذي أسميناه السرّ السحري في عملية تدوين هذه الكلمات دون غيرها، لتحمل الفهم الشعري وشعرية المعنى، فالمجتمع بحاجةٍ إلى علومٍ مخيالية، أو فهم معنىّ غير واقعيّ، أو غير علمي كما هو الطب والعلوم الأخرى، والفلسفة التي تحلّل الأشياء وتضع الأسئلة للبحث عن إجابات. وقد أشار إلى ذلك الكاتب السوري شكري عزيز الماضي في كتابه "نظرية الأدب" معتبرًا الشعر (يثير العواطف بطريقة مختلفة، فتأثير الحزن والألم والحب والبغض يوجد في الشعر، وإذا كـان هـواء النسيم، وخرير المياه، وحمرة الورود، ولطافة الأزهار، ورائحة العطور، وغزارة السحاب، ولمـع الرعـود أمام العيون فيملأ القلب فرحا وسرورا. والشعر يقدم كل هذه المناظر بطريقة كأنها هي الحقيقة أمام العيون أو أحسن من الحقيقة). وهذه جميعها تعتمد على القدرة التدوينية والاشتغالات التي يتمتع بها المنتج.
ولأجل هذا نستخلص أن الشعريّة هي الدليل على كلّ دلالات الإنتاج الشعري، وهي تحتكم إلى عدّة مهام:
أوّلًا: إنها المعادل الموضوعي الذي يحوّل الكلمات إلى دلالاتٍ شعريّةٍ قابلة لصناعة الدهشة والتعاطي مع صورة الكلمة وموقعها داخل الجملة الشعريّة.
ثانيًا: إنها كاشفة القدرة الاشتغالية التي يتمتّع بهاذ الشاعر عن ذاك، رغم التنوعّ والتعدّد في الأساليب والأشكال والطرق الانتاجية لقصيدة النثر.
ثالثًا: إنها الطريقة التي يستخلص منها المتلقّي المعاني السيكولوجية والعقلية، فضلًا عن العاطفة التي تجعل نقطة الالتقاء أقرب، ما بين المتلقّي والنص.
رابعًا: إنها اللحظة التي يمكن أن يناور بها الشاعر/ المنتج لجعل نصّه له خاصية السؤال الفلسفي، والقدرة على تنوّع المحاولات البنائية.
خامسًا: إنها المفتاح الذي يؤدّي إلى جعل أبواب النصّ مفتوحة في المستويات الاشتغالية، وأهمّها المستوى التأويلي الذي يعطي هدفية الاشتغال معناه الدلالي.
سادسًا: إنها المنطقة التي تعطي للشعور واقعه المحسوس والملموس في تذوّق معنى المفردات، التي تشكلّها قصيدة النثر في المعنى الكلّي للنص.
سابعًا: إنها الجهة التي تحدّد إبداع الشاعر من عدمه، وأنه يستطيع لملمة المفردات في بوتقة الانتاج، كونه يفهم اللعبة الإنتاجية، وليس بطريقة من يعاكس المفردات، ويجعل منها قصيدة نثر.
ثامنًا: إنها تعطي سعة الأفق، لتعدّد المناورات التي تعطي للنص النثري قابلة التمدّد والمحاورة ما بين الذات والمفردة، وما بين المفردة والداخل السيكولوجي، وما بين هذا الداخل واللحظة القرائية، وبالنتيجة تكون شبكة علاقات تأخذ بمعاني المفردات إلى الإمساك بكلّ مناورةٍ لتحديد مسار الدهشة والعذوبة.