اللغة العربيَّة بوصفها حصناً ثقافيًّا وجوهراً معرفياً
استطلاع: صلاح السيلاوي
محملة بالأزمان وتجاعيد عقودها، كلما تقادمت القرون في فضاءاتها لمعت جبهات أيامها. تتلاطم أمواج سطورها على شواطئ المعارف والثقافات، حتى أن آثار سفن الأفكار الغارقة والناجية من عواصف بحارها، بيّنةٌ بين مضامينها. سيدة العصور المتعاقبة، وحصن الحالمين بكنوز المعاني، الجارية مع الماء، والواقفة بوجه الرمل كالجبال، مشت مع الانهار حتى كأن البحار صنيعاتها، وبدت في الصحارى حتى كأن الرمل لهجاتها، متأبدة حتى كأنها لا تنتهي عنها وعن واقعها وبعض مشكلاتها.
تساءلتُ في حضرة نخبة من المثقفين، فقلت: ما رأيك بواقع تعامل الحكومات والمؤسسات المعنية مع اللغة العربية؟ ألا ترى أنها مسؤولة عن بعض تراجعها اجتماعيا من خلال عدم الاهتمام بإيجاد سبل للعناية باستخدام قواعدها عبر تأسيس جوائز قراءة لتراثها وتاريخها وما إلى ذلك؟ ما رأيك بأسباب تراجع جودتها في المؤسسات والفضائيات والمخاطبات الرسمية للدولة؟ ألا يدل ذلك على ترد ثقافي وهروب من اتقان معرفتها؟ ألا ترى معي أن التوجه لاستعمال اللهجات العربية المحلية، بدلا من الفصحى يشيع في ذهن المتلقي عدم أهمية اللغة الفصحى؟ ألا تجد أن ذلك التراجع يمثل ضربة للذاكرة العربية، لأن اللغة حصنها المنيع ومستودع أسرارها وسر كنوزها؟ هل يمكن برأيك أن يكون ذلك بداية لضياع لغوي وانكسار ثقافي جديد يضاف لانكسارات الغزو الثقافي الذي يصدر من دول واقتصاديات عالمية وثورة الكترونية لا تراعي خصوصيات المجتمعات وتعمل بفعل قدرة رؤوس الأموال على تغيير العالم؟ ما الذي يمكن أن تفعله الدولة أو المؤسسات الثقافية بشأن
ذلك؟
فضاء الفلاسفة والدراويش
الشاعر الدكتور عمار المسعودي قدم لي رأيا ممتزجا بلغته الشعرية، متحدثا عن فضاء اللغة العربية الذي يحتوي على الإنسان بعمقه الثقافي والمعرفي، واضعا اللغة موضع الروح من الجسد، طارحا أفكاره حولها عبر نص يشاكس فكرة اللغة وروحها وشعريتها فقال: نحن موجودات داخل فضاء ندعوه اللغة، نفكر فيه، نتأمل فيه، نفرح فيه ونحزن، نتخاصم ونرضى نُعز ونُذل ننهزم وننتصر. ما جعلها وأعني اللغة واقعة صنوا لأرواحنا، لو اهتزت اهتززنا، ولو مادت لمدنا ولو اتسعت اتسعنا ولو انحسرت لانحسرنا.
الكلمات كائنات لها أن تصفف لتكون فصيل انشاد، أو زمرة أفكار، أو جحافل فلسفة، أو أثير صوفية أو جدل خوارج ورافضين، أو انبساط راضين مطمئنين جالسين على سرر متقابلة، تجري من تحتهم الأفكار ثياب عاشقة في رياح حبيب، أو بهجة في فم حكيم لبيب.
اللغة لا تموت أو تذوي إلا بموت ذائقيها فجرا أبيض في ليل هجر أسود. لها السكن أعلى مما هي عليه، لها أن تستقيم الألسن كي ترتفع الذات الناطقة وتحلق، فكم من فكرة رائعة هبطت بها لغة هابطة وكم من فكرة هينة علت بها لغة هائلة. لا تأخذوا اللغة من ملقنين قواعديين، بل من دراويش ناثرين أحلامهم وآمالهم بعيدا في المدى المتنائي
هنالك.
تكلموا ولا تصمتوا تقول الصباحات حتى آخرة الضحى؛ لتهجعوا هنالك حمائم في دفء لأعشاش وليست للشجرة. نحفظها كي ننساها هذه التهجدات في رئة بيضاء من النقاء. سأسميك ناسكا وسادنا شرط أن تذيقني عنقود مساء مغمورا باللغة الهامسة.
لا تحصوها في معاجم ولا تقربوها من ألسنة الباعة وحنق العامة، فهي تنفر مثل أرانب برية حذرة.
اسمعوها أول النهر وآخره أول العشب وآخره أول العشق وآخره. لا تأخذوها من عصي المعلمين، وهم يجلدون على صباحاتنا قصائد كنا قد نسيناها.
هويتنا الثقافيَّة
يرى الشاعر الدكتور أحمد الخيال، أن الحكومات العربية، فضلاً عن المؤسسات المختصّة معنيّة بشكل مباشر بالحفاظ على منزلة اللغة العربية اجتماعيًا، إلا أنه يؤكد انخفاض الاهتمام باللغة العربية بشكل خطير حاليا، لافتا إلى اختفاء المشاريع الوطنية، التي تستنهض لغة الضاد من أجل إشاعة استعمالها بشكل واسع ولو على مستوى الخطاب السياسي والتعليمي، مبينا أن اختفاء هذه المشاريع أدى إلى غياب تأثيرها في وسط الشباب.
وأضاف الخيال مؤكدا: وغاب أيضًا دور المجمع العلمي العراقي ودور مجاميع اللغة العربية في البلدان الأخرى، فاقتصر دورهم على إقامة المؤتمرات السنويّة والندوات غير الشعبية، التي يكون حضورها مقتصرًا على النخبة فقط من دون أن تقدّم حلولاً لتراجع استعمال اللغة أو اقتراح برامج يكون لها تلقٍ حقيقيٌّ ومؤثر قبال ما نواجه من تحديات حقيقية في ضيق مساحة لغة الضاد في الواقع الاجتماعي المعاصر.
المؤسسات التي تعنى باللغة العربية كثيرة، تبدأ من لجنة اللغة العربية في البرلمان العراقي والمجمع العلمي العراقي وأيضًا المؤسسات الثقافية والأكاديمية في الجامعات العراقية المتمثلة بأقسام اللغة العربية وعلوم القرآن، إلا أن فاعلية هذه المؤسسات جميعها تبدو ضعيفة، والبرامج المقدمة لا تلبّي الطموح فهي قاصرة، بسبب حدودها المكانية وعدم انفتاحها خارج مساحة عملها، فيبقى الاهتمام محصورًا بين المهتمين باللغة فقط دون أن يخاطب بها عامة الناس، لذا على هذه المؤسسات أن تعمل على نشر علوم اللغة العربية وبيان أهميتها من خلال ابتداع برامج واسعة تصل لأغلب الناس سواء أكانت برامج قراءة أو برامج تعليمية واسعة عبر القنوات الفضائية ومواقع التواصل المختلفة.
لغتنا العربية هي هويتنا الثقافية وهي خط دفاعي حصين أمام أي غزو ثقافي، وهي لغة حيّة فعّالة متطورة، والعزوف عنها إلى اللهجات الدارجة يقينًا يشير إلى خلل واضح وقصور غير مسوّغ أبدًا، وهو ناتج عن الجهل بقدرها وبأهميتها وغناها المعرفي، ويشير أيضًا إلى غياب الهمّ الحقيقي بالحفاظ عليها وديمومة استعمالها في المخاطبات الرسمية والاكاديمية بوصفها لغة للعلم ومظهرًا من مظاهره.
يجب أن يكون لأهل المسؤولية أو من هم في مقام المسؤولية دور حقيقي ونيّة صادقة ومخلصة في التصدّي لظاهرة اتساع استعمال اللهجات العامية على حساب انحسار أثر لغة الضاد، فلا تكفي المهرجانات والاحتفالات والمؤتمرات النخبوية لمواجهة هذا الانحسار، لذا عليهم أن يفهموا مدى التطور التكنولوجي الذي أساسه يكون مبنيا على استعمال اللغة وغناها المعرفي ومحاولة وضع خطط عملية حقيقية، لفرض التحدث والكتابة باللغة العربية في مجالات الحياة كافة لحفظ ثقافتنا وذاتنا المعرفية من الذوبان فيما يصل إلينا عبر الأثير، فالمسؤولية تقع على الجميع، لكن على من هم في مقام القرار أن يعدّوا الاجراءات الحقيقية للوقوف بوجه هذا الميوع الثقافي الخطير والابتعاد عن مصدر قوتنا وثقافتنا
وأصالتنا.
طغيان الخطاب الشعبوي
الناقد الدكتور عمار الياسري، تحدث عن اللغة العربية بوصفها إحدى المركزيات الكبرى، التي قامت عليها سرديات متعددة، مشيرا إلى أهميتها في صناعة إرث معرفي، إلا أن الياسري يؤكد سيادة فلسفة الحداثة التي وصفها بـ (السائلة)، التي تنتمي إلى الخطابات الشعبويّة، فكانت النتيجة هي تسيد النصوص الهجينة التي خلخلت السائد نحو هويات فرعيّة قلقة.
وقال الياسري موضحا: ساهمت المتغيرات الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في نشأة فلسفة ما بعد الحداثة التي أطاحت بالمركزيات الكبرى التي شيدتها أنظمة العقل والخطاب والمعرفة، وتشكل مقولة بروز الشعبي وسقوط النخبوي إحدى آليات التقويض في فلسفة ما بعد الحداثة.
إن هيمنة الشعبويّة في فلسفة ما بعد الحداثة أسهم في فلسفة التسليع، التي تشعبت جذورها ما بين الخطابات سواء كانت الثقافية أو الرسميّة مما أنتج لنا بنية نصيّة تداوليّة فارقت جذورها المعرفية السالفة.
تُعدّ اللغة العربية من المركزيات الكبرى، التي قامت عليها سرديات الدين والثقافة والاقتصاد بوصفها منظومة متكاملة لها بنيتها الدلاليّة والبلاغيّة الفارقة مما جعل من أرثنا الحضاري مهادات معرفية للعلوم المختلفة، ولكن مع سيادة فلسفة الحداثة السائلة، التي تنتمي إلى الخطابات الشعبويّة فقدت الخطابات العلاقة مع مرجعيّاتها، سواء كانت الدلاليّة أم المعرفيّة لذا تسيدت النصوص الهجينة التي خلخلت السائد نحو هويات فرعيّة
قلقة.
ساهمت المؤسسات الثقافيّة والعلميّة الرسميّة وغيرها بصورة مباشرة أو غير مباشرة في طغيان الخطاب الشعبوي، الذي أشاعته العولمة الزرقاء، إذ لم تعمل على تحديث خطاباتها الرصينة قبالة سيلان الثقافة الشعبوية الهادر، فما عادت الاحتفالات والأنشطة المدرسية، التي تحتفي بالعربية أو تنتمي إليها لها القدرة في أن تكون ضدًا نوعيًا للخطابات، التي تحاصر الطلبة في وسائل التواصل الاجتماعي وما عادت الأنشطة الثقافيّة لها القدرة على الخروج من بروجها المغلقة لتشكل خطابًا جماهيريًا يعيد تشكيل رغبات الشباب البصريّة.
وأضاف قائلا: لم تقف هيمنة الخطابات المشوهة عند الفضاء الافتراضي، بل تناسلت في خطاب وسائل الاتصال الجماهيري مثل الإذاعة والتلفزيون والسينما مما جعل القطيعة مع الذاكرة العربيّة وكنوزها الوافرة قطيعة لا عودة بعدها، إذ يشكل رأس المال العالمي البنية العميقة، التي تحرك الخطابات السائلة من أجل هيمنة سياسة الإتباع، لذا لا بد من تشكيل مواطن ضدية تقوض هيمنة خطابات الفضاء الأزرق الوافدة، عبر توظيف الخبرات والأموال ثم بث خطاباتنا العربيّة الرصينة علنا نستطيع الحفاظ على البقية الباقية ثم نعمل على عودة الابن الضال الذي هام في سحر خطاب الغرب ومؤثراته البصريّة.
قانون لحماية اللغة العربيَّة
الشاعر نبيل نعمة، أشار بإجابته إلى وجود أسباب متعددة ومتشابكة تقف وراء تراجع العربية اليوم أمام اللغات واللهجات الأخرى، بعضها صميمي ويعبر عن حاجة المجتمعات التي تخلفت أمام التقدم العلمي مما أدى إلى تهميش اللغة العربية وتقليل استخداماتها في المجالات الرسمية والتعليمية.
وبعضها شكلي يتمثل بالهيمنة الثقافية التي فرضت نفسها كمعادل عن التراث والهوية، جعلت أكثر العرب خصوصا من الشباب -الميال للإنفتاح على الثقافات المغايرة- أن يتبنوا خيار النفور من العربية الفصحى واللجوء لاستعمال اللغات أو بعض منها أثناء الحديث وتسويقها كثقافة، قلل من قيمة اللغة العربية وجعلها أقل جاذبية واستعمالا في الحياة اليومية.
إضافة إلى أسباب تتعلق بضعف في التعليم واعتماد مناهج تعليمية تقليدية وغير جاذبة، وغياب الدعم الحكومي والسياسات غير الواضحة لدعم اللغة العربية وحمايتها من التهميش.
وأضاف نعمة، بقوله: إن الحفاظ على اللغة العربية مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع، فمن دون لغتنا سنفقد جزءًا كبيرًا من هويتنا وثقافتنا، ولتجاوز هذه الأزمات يجب على المؤسسات الحكومية وغير الحكومية اتخاذ عديد إجراءات تعزز مكانة اللغة العربية وتعيد فيها الروح من جديد، منها حث البرلمات العربية لوضع سياسات عمل موحدة لسن التشريعات والاتفاق على تشريع قانون حماية اللغة العربية، عبر تعزيز مكانتها في التعليم وتطوير المناهج الدراسية، وتدريب المعلمين على أساليب تدريس جديدة، ودعم البحث العلمي في مجال تطوير المصطلحات العلمية والتكنولوجية، وتشجيع استعمال العربية في وسائل الإعلام وفرض قيود قانونية على استخدام اللغات الأجنبية، وتوعية المجتمع بأهمية اللغة العربية عبر تنظيم حملات توعية، وتشجيع القراءة والكتابة باللغة العربية.
بهذا يمكن للغة العربية أن تتنفس بحرية في بيئتها، وأن تقاوم وتنافس وتقف بالضد من مشروعات تقلل من هيبتها ولمعانها على الألسن.
مسؤوليَّة الحكومات العربيَّة
الشاعر عماد الدعمي قال: يقينا إن الحكومات العربية لها الدور الريادي في الحفاظ على هوية اللغة العربية وسلامتها، وذلك من خلال تفعيل القائمين والمختصين بهذا الشأن. فدعم المثقف أمرٌ مهم، ودعم العملية التربوية والاهتمام بمعلمي ومدرسي اللغة العربية بشكل خاص أمر في غاية الأهمية. وأجزم أن تربية الصغار على حب اللغة وسلامتها وفنونها هو السبب الرئيس للبناء السليم، وهو الأساس الرصين للحفاظ على اللغة وعلى الأجيال الصاعدة.
وبمقدور الحكومات التحفيز والتشجيع من خلال الدعم المادي والجوائز وتوفير السبل والوسائل لخلق روح التنافس والإبداع، وكذلك دعم المنظمات والمؤسسات بكل الإمكانات المادية والمرئية والإعلامية. كل هذه المقومات تعزز البناء السليم وبذات الوقت هي سلاح فتاك بوجه من يقف ويحاول محاربة اللغة، ذلك التراث العربي الذي حافظ عليه القرآن الكريم وشدد على الحفاظ عليه، بل وأكد اللغة وفصاحتها وبلاغتها وفنونها المتعددة كونها علوما انسانية تمسُّ شغاف القلب وتهزُّ
الوجدان.
وأضاف الدعمي أيضا: تقع مسؤولية الحفاظ على اللغة على عاتق الجميع على المعلم والمدرس والأكاديمي وعلى رجل الدين والخطيب والمؤسسات الدينية وعلى المثقف الواعي المتطلع وعلى الأديب وعلى جميع المنظمات الثقافية. وكذلك للإعلام الدور الريادي في تحبيب مادة اللغة وأهميتها والحرص عليها، وكذلك التصدي للهجمات الشرسة، التي واجهتها اللغة من خلال مفردات أجنبية دخيلة باتت تسيطر على الشارع العربي وعلى الأجيال الحالية التي ستقود البلاد فيما بعد ، لذا مواجهة هذا العصف أمر لا بد منه بكل الطرق والوسائل التي ذكرناها، وهذا يتطلب منا أن نبذل قصارى الجهود من أجل ردع الهجمة الشرسة التي تُقاد من قبل دول استعمارية كبرى تعمل عليها منذ سنين، وتخطط لها بكل الوسائل المتاحة لها لطمس هوية العربي ولغته الأم، والتي تعد في صدارة اللغات
العالمية.
لذا يتطلب منا الوعي والحذر والتصدي بكل القوى البشرية وبجميع الوسائل الإعلامية بعناية مركزة ومكثفة، وفق معايير ودراسات تؤسس لقادم
الأيام.
وعلينا أن لا ننسى دعوة الله سبحانه وتعالى حينما أنزل بكتابه المبين ((إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)) فالتعقل مرتكز أساسي لتفحص ما ورد من لغة في كتاب الله. ناهيك عن تاريخ العرب المهم فهو خزين ثقافي ما زال محط أنظار العلماء والباحثين والمفسرين والدارسين.
وبهذا نتج عن اللغة وأسرارها ما يواكب الزمن وإن دارت السنون، لأنها تواكب العصور وخاضعة للتأويل والتفكر وذلك سر الإعجاز، الذي جاء به النبي "محمد صلى الله عليه وآله وسلم".