وارد بدر السالم
في كتابه "الخدعة السومرية ونشوء الرأسمالية" يقول جي. دي: (أنا أكتب هذه الأسرار لأول مرة في التاريخ) في توجيه عَتباتي لافت، وإعلان صريح للتنقيب في القراءة. فالكشف عن الأسرار لأول مرة في التاريخ لا بد أن ينال أهمية استثنائية خاصة، وإن الحقل التاريخي الذي يرصده الباحث، بلاد ميزوبوتاميا، من أهم الحقول التي كتبت عنها عشرات ومئات الدراسات والبحوث والرسائل والأطاريح الأكاديمية.
الكتاب راصد لإقراض المال (الربا) منذ بدايات الحضارة، وما يسببه هذا الإقراض من سلوكيات عدوانية واحتيالات وخدع، كأن الحضارة الفعلية بدأت بخدعة واحتيال اقتصادي ومصرفي وديون خاصة وعامة، لجأ اليهود إليه. وما قاله المؤلف عن ما أسماه بالخدعة السومرية، وتحليلها وتسبيبها وتأويل معطياتها الاقتصادية وما تركته من أثر في العصر الرأسمالي الحديث، إن صحّ ذلك في تحليل الباحث. لا سيما أن اليهود العالميين ما زالوا يقتفون أثرها فطوّروها مع متغيرات العالم السياسية والاقتصادية، كما يشير الكتاب إلى ذلك. لذلك توجب بداية فرز معطيات معينة جاءت في مقدمة الكتاب القصيرة: (هنا القصة الحقيقية حول كيف احتال اليهود على الجنس البشري) وهم (على مر التاريخ حاولوا أن يعطوا لأنفسهم قيمة غير موجودة أصلاً.) و(جماعة كاملة من اللصوص والكذابين) و(يعلمون أطفالهم مهاراتهم الإجرامية، وتمرير المعارف التآمرية والتحايل لأجيال لا تُحصى من اللصوص والقتلة اليهود).
ولا يخفي المؤلف إعجابه ببلاد وادي الرافدين (تلك الحضارة التي نشأت في الماء والطين والشمس اللاهبة الحارقة) وهذا إعجاب طبيعي لبلاد أسست أنظمتها الحياتية كلها بطريقة مبتكرة وناجحة، فالخصوبة والزراعة ووجود الأهوار والرواسب الطينية في الجنوب والأمطار الموسمية، أوحت للمزارعين حفر(خنادق لنقل المياه من الأنهار إلى الحقول الجافة) في تطور ميداني لافت. وأضحت البلاد ذات طبيعة زراعية وتجارية وحضارية أيضاً. حين اتسعت مواردها باتساع السكان في البلاد وحاجاتهم الزراعية ومن ثم الصناعية الأولية. كما أن اختراع الكتابة التي غيرت السلوكيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى مسارات أكثر دقةً وجمالية، فتحول التاريخ - مع الكتابة- إلى كتاب مقروء، بعد أن كان شفاهياً وذاكراتياً. وهذا يعني أن الحياة العراقية القديمة أصبحت ذات قوانين مكتوبة، وتحول الناس من الجهل إلى المعرفة، حتى بوجود طبقات اجتماعية بين الغنى والفقر، بسبب وجود التجار والرأسماليين والوسطاء الأثرياء، والتعامل مع أقوام أخرى عبر البحار، وهو ما أتاح للتجار الكبار، بما يمكن تسميتهم بالرأسماليين أن يبتكروا "الخدعة السومرية" كما ورد في الكتاب.
كيف احتال اليهود على الجنس البشري؟
يُفترض بأن مثل هذا السؤال يفترع القيمة البحثية للكتاب، باعتبار أنهم (جنس فريد من الناس) لو استوعبنا تاريخية اليهود منذ العصور القديمة حتى اليوم. لنقف عند "الخدعة السومرية" التي انتهجوها على مر التاريخ البشري، في الاقتصاد الربوي على وجه التحديد، إذ كانت تلك الخدعة/ الحيلة محفزاً لهم. ولكن عبر هذه النقاط التي وجدنا فيها مغالاة غير خافية أثناء القراءة: فلقد كانت (في غاية السرية) حتى أنه (لم يعرفها حتى علماء اليوم) و(لم يتمكن علماء العصر الحديث من فهم طريقة عملها) و(على مر التاريخ دمر هذا السلاح القديم بلداناً بالكامل) و(قضت على حياة الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم وخلقت الجوع والمرض والحرب والهلاك البيئي).
هذه بعض الإشهارات اللافتة، تستوجب الحذر فعلاً. ولنقل أن أغلبها إنشائي لم يستند على معلومات أو مصدريات واضحة، على الرغم من ميل جي. بي إلى إعجابه بحضارة ميزوبوتاميا ونشوئها وتعاقب أجيالها من الملوك. ولكن هذا لا يعفي من إدراج تساؤلات وملاحظات في البحث عن القيمة العلمية التي يتضمنها الكتاب لو وُجدت.
قراءات الكتاب من أجل الربط التاريخي بالمعاصر، أوصلتنا إلى أن المؤلف قال ما لم يقله بوضوح. استعراضه لبلاد النهرين وافٍ من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعملية لا جديد فيها؛ فالحضارة الرافدينية كبيرة ومؤثرة. وما لم يقله بوضوح هو ابتعاده عن فكرة الكتاب بالأساس. ولو فرشنا التاريخ اليهودي منذ القرن السابع عشر ق.م. أي منذ عصور الأنبياء ابراهيم واسحاق ويعقوب (قبل 4000 سنة) لوجدنا حياة اليهود قد بدأت منذ تلك الفترات كما ذُكر في الكتاب المقدس. وهو وجود إشكالي تاريخياً لم يتطرق الكاتب إليه. وجود متشكل من عوامل سياسية ودينية، لم يتبلور إلا بعد نزول الأسفار الخمسة في الحكاية التوراتية المعروفة للنبي موسى. كل هذا يستدعي الوقوف على التاريخ اليهودي المشتت في أسفار الكتب وتواريخها المتقاطعة، بما يعني أن الفترات التاريخية التي وقف المؤلف عليها، كانت بالضرورة هي فترات تشكلات تاريخية لبلاد النهرين، وما لم يقله المؤلف بوضوح، أن وسائل الخداع تاريخياً بدأت من اليهود قبل الميلاد، وعاصرت معظم أنبياء تلك الفترات. ولم يقل إلا بعد قناعته - بما أسماه الخدعة السومرية- بأن (الربا، الاحتيال، الخداع، المقايضة) هي ممارسات يهودية على مر تاريخهم المخادع.
أما ربطه بالجذر السومري والتاريخ الرافديني القديم، أمر لا يمكن عدّه واقعياً، مع أن الكتاب بأكمله يدور حول تلك الحضارات العراقية القديمة، واضعاً العُبيديين في دائرة الشك، وربما الاتهام. فهم مؤسسو الخدعة أساساً. وأخذها اليهود المعاصرون وطوروها، بعد أن طورها السومريون الجدد، بوصفها واقع حال، قبله الكهنة كما قبلته المعابد، كونه أمراً قارّاً في الحياة الاقتصادية القديمة، وإن الأسرار التي كشفها الكاتب (لأول مرة في التاريخ كما يقول) تثير الجدل والشك حول تورط السومريين القدماء بأن يخادعوا أو يخدعوا شعبهم، لم تأتِ على وفق أية خلفية تاريخية ولا يمكن أن تكون حقيقية بالقدر الذي حاول الكاتب أن يبرهنه بحذر. ولعله أراد إلفات الأنظار إلى هذه الموضوعة الخطيرة التي يمارسها يهود اليوم، ويربطها بمؤثرات خارجية قديمة، لا يمكن لها أن تكون حقيقية جداً، ما لم يكن الدليل ماثلاً بين يدي المؤلف من لوحٍ طيني كوثيقة، أو مصدر كتابي، أو معلومة تاريخية يمكن اعتمادها.
هامش:
• الخدعة السومرية ونشوء الرأسمالية- جي. دي – دار كنعان للنشر والدراسات - دمشق 2023