المنهج التكاملي.. رؤية في النظريَّة والإجراء

ثقافة 2024/12/26
...

  أ. د. رائدة العامري

تعود قضية المواجهة بين الناقد والنص الأدبي إلى مرجعيات منهجية عديدة ومتنوعة، تبدأ مع المناهج السياقية التي تأخذ بنظر الاعتبار النص ومحيطه كاملا، فيعنى المنهج التاريخي بالحالة التاريخية المرافقة لإنتاج النص الأدبي؛ ويعنى المنهج الاجتماعي السوسيولوجي باجتماعية النص الأدبي، مثلما يعنى المنهج النفسي السايكولوجي بالمناخ النفسي للمبدع وما حوله من تأثيرات نفسية، ثمّ يأتي المنهج النقدي الانطباعي كي يعكس وجهة النظر الذاتية في استجابة الناقد الحسية والجمالية إثر قراءة النص، وظلت هذه الرؤية المنهجية السياقية مهيمنة على الفضاء النقدي العربي ردحاً طويلا من الزمن.

جاءت البنيوية بوصفها منهجاً نصياً يفترض موت المؤلف كي يوجّه العناية المطلقة نحو النص نفسه، ولا شيء غير النص، بوصفه بنية ألسنية مغلقة على ذاتها ومكتفية بذاتها بعيداً عن المحيط التاريخي والاجتماعي والنفسي والانطباعي المؤثر في النص، وحقق منجزات هائلة على صعيد إنتاج مجموعة كبيرة من المناهج النصية خرجت كلها من معطف البنيوية، ثم أعقبتها مناهج ما بعد البنيوية فضلاً عن نظريات القراءة والتلقي بأشكالها المتعددة، وصولاً إلى النقد الثقافي الذي دعا أصحابه إلى أن يكون هذا المنهج بديلاً عن النقد الأدبي، من خلال نظرية الأنساق التي تفترض وجود أنساق خفية في النص الأدبي لم ينجح النقد الأدبي في معالجتها، على النحو الذي أسهم في حضور هذه المناهج كلها في ميدان الدرس النقدي وبحسب نوعية الناقد وطريقة تفاعله المنهجية مع النصوص الأدبية.

ظهرت في خضم هذه الثورات المنهجية المتعاقبة رؤية منهجية تحاول الجمع بين هذه المناهج؛ وتمثّلت اصطلاحاً بـ "المنهج التكاملي" الذي يقضي بذهاب الناقد نحو الإفادة من كل المناهج المتاحة، على أساس أن النص الأدبي شديد التنوع بما لا يمكن أن يستجيب لمنهج واحد بعينه، فيمكن في هذه الحال توفير سبيل نقدي لاستخدام آليات المناهج مجتمعة للوصول إلى قراءة كلية تتكامل فيها الرؤية المنهجية، وتنجح في استقصاء الأبعاد الثقافية والجمالية والفنية والنصية الكاملة في فضاء النص الأدبي المنقود.

لا شك في أن هذه القضية هي قضية إشكالية لا يمكن ضبطها في سياق رؤيوي واحد يلغي ما غيره، وكل منهج من هذه المناهج له أدواته الخاصة بمعالجة النص الأدبي وقراءته، وإذا ما أحصينا نتائج عمل هذه المناهج منذ البداية سنجد أن كل منهج منها قد حقق كشوفات خاصة به، غير أن هذه الكشوفات ظلّت تدور في مناخ المنهج وتستجيب لمنطلقاته وآفاقه، بحيث يستحيل تفضيل منهج على آخر من هذه الناحية لأن كل منهج له ميزاته في قراءة العمل الأدبي مثلما له نواقصه، بما يمنح أي منهج الأحقية المطلقة في تسيّد الساحة النقدية من دون غيره من المناهج الأخرى المجاوِرة، على النحو الذي دفع أصحاب المنهج التكاملي إلى القول بالأخذ بالمناهج كلها فيما يمكن أن نطلق عليه (كوكتيل منهجي)، يوصف بأنه الحل الأمثل الذي يتخلّص من واحدية المنهج المفرد عبر الأخذ بآليات المناهج جميعاً.

إن هذه الرؤية المنهجية التكاملية تصطدم في أول اختبار لها بعملية الخلط المنهجي بين المناهج؛ بما يؤلف رؤية شبه ملفّقة لا تستند إلى معايير تأخذ بنظر الاعتبار شخصية الناقد الخاصة، بما تنطوي عليه من رؤية ومزاج وموقف ومعرفة واستعداد وموهبة وحالة، وتميل إلى الانتصار للأدوات النقدية المُعدّة سلفاً لمواجهة النص الأدبي، وكأن النص الأدبي جثة لغوية وكلامية جامدة تخضع للأدوات النقدية بمعزل عن شخصية الناقد، في حين يتحرك النص الأدبي في فضاء دينامي متموج لا يتوقف؛ على نحو يفرض على الناقد أن يستجيب لحراكه الإبداعي الخلاق، وهو لا يمنح نفسه بسهولة، بل يحتاج إلى ذكاء الناقد من أجل تفكيك سلطته والدخول في متاهته النصية، وهذا الأمر يحتاج إلى إمكانات نقدية كبيرة لا تكتفي بالأدوات فقط.

لذا فإن ما يدعى بالمنهج التكاملي ليس سوى محاولة عقيمة وغير منتجة للهرب من فكرة الانصياع لمنهج معيّن، وهو منهج مصنوع وملفّق وحاصل جمع آليات غير متجانسة من مناهج كثيرة، تتناقض في أحيان كثيرة مع بعضها بحكم اختلاف مرجعياتها المنهجية القائمة على مصادر فلسفية مغايرة ومن الصعب جمعها في سلة نقدية واحدة، على النحو الذي لا يقدم حلاً حاسماً للخلاص من مشكلة المنهج في القراءة النقدية المواجهة للنص الأدبي.

لكن رفض فكرة المنهج التكاملي في هذا الإطار لا يعني أن الحلّ يكمن في المنهج الواحد الأحد، مهما بلغ من قوة الأدوات وعلمية الرؤية ودقتها وحيويتها، لأن المنهج النقدي يقدّم عادةً مجموعة من الأدوات التي يعتقد أصحاب هذا المنهج أنها كفيلة بتحقيق قراءة كاملة للنص، غير أن النص الأدبي بحكم تكّونه من طبقات عديدة وعوالم ظاهرة وخفية لا يمكن ضبطها، لن يخضع لآليات منهج محدد مهما وفّر من أدوات جديدة وفاعلة في القراءة والتحليل والتأويل، بما يعني أن المنهج الواحد المحدد لا يحمل الحل النموذجي في هذا السياق لاستحالة قدرته على احتواء طبقات النص وعالمه ومتاهاته كلها.

تتحدد إشكالية المنهج النقدي في مواجهة النص الأدبي على أساس طبيعة شخصية الناقد، وتكوينه المعرفي والثقافي والفكري القائم على كيان شديد الخصوصية، فضلاً عن الموهبة والاستعداد النفسي الذاتي لهذه المهمة النقدية النوعية، والتسلّح بخبرة علمية وذوقية ومزاجية تنضبط على وفق رؤية نقدية تتحكّم بها طبيعة الشخصية، بحيث يكون المنهج النقدي بأدواته النقدية خادماً للشخصية لا سيداً عليها، وتقوم هذه الشخصية النقدية على تأليف مسار نقدي حيوي لا يخضع لما هو خارجها من اعتبارات، وتنتمي إلى ذاتها النقدية الحرة بما يجعل أدوات المناهج النقدية كلها خاضعة لسلطة الشخصية لا العكس، وعندها تتمظهر هذه الشخصية بكامل طاقاتها الخلاقة للتفاعل مع النص الأدبي بأعلى درجات الحرية، من دون النظر إلى هوية المنهج وضرورة تسميته في كل مرحلة من مراحل الفعالية النقدية الإجرائية.

تنتهي العملية النقدية في حالاتها كلها إلى فعالية إجرائية تسعى إلى استكشاف القيمة الجمالية والمعرفية للنص الأدبي المقروء، وهذا هو جوهر النقد في مفهومه الجمالي والثقافي النوعي، بما لا يلتفت كثيراً إلى قيمة التسمية المنهجية بقدر ما يكون الالتفات الحقيقي إلى ما تنجزه القراءة الإجرائية، وهي تغوص في أعماق النص الأدبي وتتحسس تضاريسه ومناخه وبلوغ طبقاته الجمالية وإدراك حمولته المعرفية والثقافية والفكرية، على النحو الذي تحقق فيه القراءة النقدية أعلى درجة المتعة والدهشة خارج التسميات والتحديدات العقيمة.

يحرّض هذا الموضوع الثري والخصب على طرح مزيد من الأسئلة التي ينبغي العمل على تحقيق إجابات عنها، مثل: 

هل يمكن لأي منهج في العالم مهما بلغت قدرته على احتواء الفعالية النقدية أن يكون بديلاً عن المناهج الأخرى؟

هل المشكلة في طبيعة المنهج أم طبيعة الناقد نفسه من حيث التشكّل والخبرة والموهبة والانتماء إلى فضاء النقد بإيمان موضوعي جدير بالأهمية؟

إلى أي مدى يمكن الجمع بين أكثر من منهج في فعالية نقدية واحدة، وكيف يمكن تفعيل أدوات منهج معيّن صحبة منهج آخر قد يكون مخالفاً له في التصوّر والرؤية النقدية؟

وهل يعدّ "المنهج التكاملي" إذا ما توفّرت له شروط التكوّن والتبلور الصحيح قادراً على الاستجابة لطموحات الناقد وتطلّعاته ورؤاه وتطوّر أدواته النقدية؟