محمد غازي الأخرس
مصادفة غريبة؛ قبل أسبوع، حين تذكرت رحلتي إلى السماوة بحثا عن حكايات المقابر الجماعية، انتشر خبر العثور على مقبرة جديدة في الصحراء ذاتها، صحراء السماوة. كانت الصورة التي انتشرت مع الخبر شبيهة حد اللعنة بالصور التي تبقت في ذاكرتي. في تلك الرحلة، اتخذنا دليلا للمقابر من أهل الصحراء، وهو شاب بدوي اسمه مالك. نعم، كان شاهدنا بدوياً، لكنه يمتلك وعياً حاداً. قال لي يومها : "صحيح أنا أعرابي ومن عائلة فقيرة، لكن لديّ دوافع لهذا العمل، في سبيل نقل الصورة للناس الذين لا يعلمون الحكاية". لقد نقل لي ذلك الشاب، وبلسانه البسيط، مشهداً لم أستطع نسيانه عن أول مرة يرى فيها أكرادًا ينقلون إلى أماكن وسط الصحراء حيث سيقتلون ويدفنون فيها. كان مالك في الطريق إلى المدرسة مع أبناء عمه، وإذا بهم يصادفون رتل سيارات من نوع (ريم)، التي يتذكرها أبناء جيلي. لاحظ الأطفال أن السيارات تمتلئ بالأكراد، نساء شابات وعجائز من الجنسين وأطفال وصبيان. يقول إنه يتذكر جيدا أن الأطفال كانوا يشيرون له وبني عمه من النوافذ وهم يبتسمون، وكأنهم ذاهبون في سفرة، هل كانوا يجهلون ما هم مقبلون عليه من مصير؟ لا أدري، ولا شاهدنا يدري، إنما ما جرى لاحقا أن أحد أقربائه من الرعاة أخبره بأن راكبي تلك السيارات قتلوا جميعا ودفنوا في مكان بالصحراء، وأنه رأى الجريمة بعينيه. صدم الطفل من هول الحكاية، وطلب من الراعي أن يذهبا إلى مكان الجريمة. رفض الأخير خوفا، لكن شاهدنا البدويّ ذهب لوحده بعد أن ذله رفيقه، وهناك لاحظ مالك آثار الشفلات على الرمال حيث دفن أولئك الأكراد وغيّب أثرهم. حكاية مرعبة كان شاهد فيلم (الجحيم) بطلها أو ضحيتها، قلت بطلها وضحيتها لأن الأمر سيان في تجارب كهذه؛ الشهود أبطال لأنهم نقلوا لنا الحكاية، لكنهم ضحايا أيضا، فمن يرى جرائم كهذه لن يعود إلى طبيعته السوية أبدًا.