محمد طهمازي
إن للأمكنة سحرها الخاص المرتبط بالذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية للشعب. يمتد مسمى الأمكنة إلى مساحات شاسعة ليشمل تفاصيل المدن والريف والمناطق التاريخية والأثرية وما يتخللها من تفاصيل ورموز ومناخات. وما تقدم كله بوجهيه المادي والمعنوي يعتبر رصيدا لأي شعب كونه يصنع بطاقة الهوية البصرية كما هي تفاصيل البطاقة الشخصية لأي إنسان فنحن نعتبر أن تاريخنا هو في الآثار التي تعد تراثنا المتجسد في الموجودات والشواهد التي تفاعلنا ونتفاعل معها ونعيش فيها وحولها، وهذا كله يوثقه الفن التشكيلي الذي يسلط الضوء على القيم الفنية الكامنة في هذا الثراء
البصري.
يخرج لنا اسم عبد القادر الرسام بقوة في مرحلة البدايات التي تم إهمالها وتهميشها بل والاستخفاف بها وسط ضوضاء الحداثة، غير المفهوم محتواها من قبل أغلب من ركبوا موجتها، واللهاث خلف صدى الحركات الفنية التي ملأت سموات الفن آنذاك وكأنها اتفقت جميعا على دفن تلك الجذور عميقا. هل أريد بذلك تحويل مسار الرسم في العراق عن الخط الموصل للعالمية، وبعبارة أخرى إبعاده عن التسلسل التطوري الذي يجعله يقف على أرض صلبة ثابتة بدل الرمال المتحركة التي خاضها ويخوضها كنتاج لتلك الفوضى غير الخلاقة، برأيي، والتي أجلت كثيرا صعود الفن التشكيلي العراقي وجعلته يعتمد على الجهود الفردية !
شكل عبد القادر الرسام خط الشروع الواقعي التوثيقي الذي فقده الرسم العراقي ليشكل الخسارة الكبيرة التي خلقت فراغا في مرحلة مهمة من تاريخ التشكيل والثقافة العراقية التي تفتقر لماضٍ قريب ولم يتم الإلتفات إلى هذا الفراغ والخلل، ثم لاحقا ودون وعي جاءت عمليات ترقيع لهذا الفراغ كانت من البؤس بمكان ومن الابتذال والتكرار والسوقية، كجزء من متطلبات السوق والجري وراء التقليد غير الواعي ولا المتمكن.
من النزر اليسير الذي وصلنا من أعمال عبد القادر نرى شغفا بتوثيق البيئة العراقية ولعله كان يدرك أهمية التوثيق التشكيلي لبيئات ذات طبيعة متغيرة أو قابلة للاندثار كالبيئة والأمكنة في العراق، وسعى منفردا لخلق مرجعية تاريخية وثقافية أصيلة تحفظ تشكيليا التاريخ البصري والمعرفي للمكان وتأصل الهوية التي تمنح الأجيال زخما مهما من الشعور بانتمائهم لهوية مكانيّة عراقية.
لقد وضع عبد القادر الرسام بداية ممتازة للرسم الواقعي الموثق للبيئة العراقية بإمكاناته كرسام هاوٍ وغير متفرغ للرسم، وكان فرصة لتقليد يمتد في توثيق الأمكنة في العراق تشكيليا لكنها كما أسلفت قد وئدت في مهدها للأسف. تقليد كان له أن يلعب دورا مهما في ترسيخ الهوية الفردية والجماعية لبلد يتشكل من تحت الصفر، حيث يبرز دور التراث عموما والتراث البصري خصوصا كمحدّد للهوية، يجمع تنوعها ويوحد بصماتها. تراث يفيض بآفاق عظيمة تمد اأاجيال الفنية بقيم إبداعية تترجم بصريًّا في نتاجاتها الفنية بمختلف مدارسها.
نحن إذ تطرقنا إلى التوثيق التشكيلي في مقالنا فهذا لا يعني أن عبد القادر الرسام كان مجرد كاميرا فوتوغرافية تلتقط صورا تذكارية لهذا المكان أو ذاك، بل العكس فقد كان رغم حرصه على التفاصيل المشهدية لكنه لم ينسَ أن يترك بصمته الخاصة التي لا تتقيد بالنقل الحرفي وتذهب إلى نوع من التبسيط في معمارية اللوحة بشكل يقترب أحيانا من تقنيات فنانين ينتمون إلى الواقعية الاشتراكية في رسم المشاهد الطبيعية وبالتالي فهو لم يكن ناقلا جامدا.
في الختام لابد من تحرك لاستعادة أعمال عبد القادر الرسام التي تعرضت للنهب والعمل على أرشيف ومتحف لكل فنان كانت له بصمة مميزة في الحركة التشكيلية العراقية قبل أن نفقد كل ذاكرتنا الفنية والبصرية.