صالح رحيم
لا يمكن تجاوز أهمية جاك دريدا أو عدم الانبهار بلغته وبما قام به في مشروعه الذي رام فيه تفكيك الميتافيزيقا الغربية، والانتصار للكتابة بوصفها موضوعة مستبعدة ومطرودة من جنة التفكير أو الوجود الخفي في الفلسفة الغربية، عبر مقالاته وكتبه "علم الكتابة" و "الكتابة والاختلاف".
لكن الكتاب الذي أعرض له يقلب الطاولة، إذ يتناول "ديفيد ميكس" في كتابه "من هو جاك دريدا، سيرة حياة فكرية" الصادر عن دار الرافدين بترجمة د. رمضان مهلهل سدخان، أقول يتناول ميكس متن دريدا بالنقد والتحليل وقل إن شئت بالتقويض، إلى درجة أن صورة دريدا تظهر على درجة عالية من الخداع والحيلة على القارئ.
عندما نطالع تناول دريدا لنصوص الفلاسفة الذين اتهمهم بالتمركز حول اللوغوس والانحياز للكلمة المنطوقة على حساب الكلمة المكتوبة، نجد أن مشروعه ما هو إلا تطهيرٌ للفلسفة من هذا التمركز حول اللوغوس ويريد به -أي التمركز حول اللوغوس- الميتافيزيقا بوصفها بحثاً في الجوهر نابعاً "من صميم رغبةٍ في الوضوح التام، كان هدفها يكمن في جعل المعنى متاحاً بالكامل للوعي"، وإذا شئنا تعريفاً يذكره المؤلف نصاً فإن مركزية اللوغوس يعني "أنه تثمين لتقرير معقول، تقرير قدمه الفكر الواضح، وإعلاء مثل هذا الوضوح إلى مرتبة الاكتفاء الذاتي".
كذلك فيما يقول، إن اللوغوس يعني الكلمة، أو العقل، أو التقرير، أو القصة، وهو مقابل للميثوس والذي يمكن أن نقول عنه حكاية لا أساس لها.. وعليه فإن مهمة دريدا، تتلخص في كونه يروم تحويل اللوغوس إلى ميثوس.
فكان منهجه في هذا التطهير هو المنهج الشكي، عبر مفهومه الرئيس والذائع الصيت وهو الاختلاف المرجئ، والذي يشير إلى عدم الوثوق الذي يكمن في المعنى.. ومن جملة ما راعاه دريدا في مشروعه الشكي هذا هو فصل الفلسفة عن الاهتمام النفسي، لكننا سنجد أنه لم يراع هذا المبدأ طول مشواره الفلسفي إنما وجد نفسه مضطراً إلى اللجوء إلى هذا العالم -عالم النفس- بعد فضيحة صديقه بول دي مان وتورطه بتأييد النازية، فما كان من دريدا إلا الدفاع عن صديقه دفاعاً تبنى مقولات التحليل النفسي، وقدم قراءةً مشوهةً لخطابات دي مان المؤيدة للنازية بوصفها خطابات ناجمة عن ذات متعذبة عذاباً نفسياً لم يره الا دريدا نفسه.
يرى دريدا، أنه لا توجد حصانة للكلمات، المعنى في تحول دائم، وفي تغير دائم، نحن لا نملك السيطرة على ما نقول، وعلى ما نكتب، الكلمة التي ننطقها تخرج في تيه، والحال نفسه ينطبق على المكتوب، ثمة انفتاحٌ دائمٌ على التأويل، لأن الاختلافَ، لاعبٌ أساسيٌّ في عملية التأويل، وراء كل كلمةٍ نسمعها، تقف مصفوفة لا نهائية من الاختلافات، وبالتالي فإن هذا يعرض المعنى إلى انتهاك دائم، ولا ثبات، إن جاك دريدا، يرى في مشروعه أن هناك فلاسفةً مثل أفلاطون وهوسرل، يمثلون مركزية اللوغوس، أو الفكرة الواضحة والمكتفية بذاتها، والتي يمكن نقلها عبر الكلام، لكنَّ ديفيد ميكس، يتقصى هذا الأمر، ويرى أن دريدا قد أساء قراءة هؤلاء المفكرين، ولم يقتبس منهم إلا ما يؤيد فكرته ومشروعه التفكيكي.
فعندما يتناول أفلاطون، فإن دريدا، نجد أن نقده قائم على ادعاءات، وعلى تشويه متعمد وقسري أحياناً لنصوص واضحة وجلية، لكن دريدا يغض الطرف عنها لصالح مشروعه الفلسفي، كذلك الأمر في نقده شترواس، وأوستن، وحتى بالنسبة للفلاسفة الذين نالوا إعجابَ دريدا، وتقديره، نراه يتعمد إساءة قراءتهم لصالح ما يطمح إليه، فعندما يستحضر السوبرمان، في إحدى مقالاته، بوصفه شخصية تعد بنسيان الكينونة، لصالح التشرد واللامكان، ينسى أو لا يرى بأن نيتشه يصور السوبرمان بوصفه "الحامل النبوئي لعلاقة جديدة بحيواتنا، أي وسيلة لتعليم الإنسانية لتصور جمال جديد، وليس وسيلةً لإبعادنا عن العالم كما يوحي دريدا". بل يرى ديفيد ميكس، بأن دريدا يفشل في فهم الهدف من وراء السوبرمان، الذي يراه نيتشه، هدفاً إلى "قهر كراهية الذات التي تأسست بحسب وجهة نظره عن طريق الفكرة المسيحية للذات ومبادئها الأخلاقية".
لم يسلم دريدا من الوقوع في التناقض، فهو كما أشرنا، لم يلتزم بالفصل بين ما هو فلسفي وما هو سيكولوجي، خصوصاً ما يتعلق في دفاعه عن صديقه بول دي مان. أو في دفاعه عن هيدغر.
وبالإضافة إلى ذلك، وجد دريدا نفسه بحاجة إلى ملحق، كما يرى ديفيد ميكس، ملحق يمكِّن التفكيك من التعامل مع السياسة من خلال أسس أخلاقية عالية، ويرى ديفيد ميكس "إنَّ عودةَ دريدا نحو الأخلاق قرب نهاية حياته، لم يكن بالطبع مجرد قرار استراتيجي حول تراجع هيبة التفكيك، فهو أخذ يتقدم في العمر ومع اقتراب أجله تذكر المسؤوليات والذكريات التي شكلت حياته..." فجاء ليفيناس بالنسبة لدريدا بوصفه بديلاً للميتافيزيقا.
يرى ديفيد ميكس، أن حيرة دريدا هذه، ذات فائدة، "لأنها تخبرنا بشيءٍ ما حول رغبتنا الحالية في استحضار، بلفتة واحدة، التنوع البارع جنباً إلى جنب مع المسؤولية الأخلاقية"، يجسد دريدا تناقضاً يسكن فينا، تناقض بين التحرر الذي نشعر به في المجال الموسع للمعنى وبين التزامنا الأخلاقي تجاه الآخرين.