مبارك حسني
بل من خلال توظيفها فنيًا بالاعتماد على الكشف الثوري للفن السابع الذي هو الحركة.
أثر السرياليَّة
ولد مان راي في الولايات المتحدة، وأقام في باريس منذ عام 1921، سنة انبثاق التجربة السريالية بين الشعراء والفنانين التشكيليين والسينمائيين المستجدين في ساحة الإبداع. صادقهم وخالطهم وشاركهم التجربة بعمق، بعد أن عرّفه عليهم صديقه الفنان مارسيل دوشان، صاحب تيار "الريدي ميد"
الشهير. وعُرف مان راي في البداية ببورتريهات مشاهير الشعراء والكتاب والفنانين السرياليين خاصة. لكنه سرعان ما وظف الصورة المتحركة وجماليات الصورة الثابتة والأفكار السريالية لإبداع أفلام ثورية، متجددة، فنية، وتجريبية قبل عقود طويلة من انتشار هذا
التيار.
أربعة منها تم ترميمها ودمجها في فيلم واحد يُعرض حاليًا في الصالات الفرنسية. هي: "العودة إلى العقل" (1923)،"إيماك باكيا" (1926) "نجمة البحر" (1928)، وأخيرًا "غرائب قصر دي" (1929).
الفيلم القصيدة
هي أفلامٌ صامتة أُضيفت لها موسيقى تصويرية من الثنائي Squrl، الذي شكّله المخرج المبدع "الاندرغراوند" النيويوركي جيم جارموش برفقة كارتر لوجان. تنطق الأفلام بصور غير مألوفة تحمل مكنونًا ذاتيًا، تُبدعه الصور وهي تتحرك بفضل رؤية مان راي وما يجول في رأسه لحظة خلقها. بلا إخراج ولا سيناريو ولا أحداث واضحة ومفهومة. فقط الصورة وهي تتحدث عن نفسها. لقد اكتشف مان راي قبل أي أحد رمزية الحركة التي أوجدت الفن السابع، لكنه عوض أن يربطها بالسرد كما كان سائداً، استخدمها لذاتها لإبداع شعر سينمائي، أو ما سمّاه بـ"الفيلم-القصيدة".
الحلم سينمائيًا
من أبرز الأمثلة على ذلك فيلم "نجمة البحر"، الذي يستوحي عوالمه الغريبة من قصيدة بالعنوان نفسه لصديقه الشاعر الكبير روبير ديسنوس (1900 - 1945). في هذا الفيلم، تتواتر لقطات تتوسَّطها أبيات القصيدة بالأبيض الناصع، ولقطات تحمل شتى التخيلات والتهيؤات. في أجملها، نرى ممثلة وممثلًا خلف زجاج سميك يغير الملامح والحركات، فيخلق إحساسًا بلزوجة خاصة، كما لو أنهما يعيشان لحظات من البطء الحياتي، يشبه ما يحدث في الأحلام.
أفلام مان راي تطبيقٌ واضح لفكرة السريالية، التي تعد الحلم والتداعي الحر من مكونات حقيقة الفرد وواقعيته
الأخرى.
في لقطات أخرى، نرى الممثلة في شارع عام يضج بنور الشمس، تبيع الجرائد المتطايرة بفعل ريح عابرة. تبدو الصورة وكأنها تحيي زمنًا صار حلميًا رغم واقعيته، وذلك بفضل تقنية "التشميس" أو التصوير الشعاعي، التي اخترعها مان راي صدفة، داخل غرفته المظلمة، ذات اشتغال على توضيب واستخلاص صور من الظلام الذي سكنها لحظة التقاطها.
اختراق الصورة
في فيلم "العودة إلى العقل"، الذي طلب الشاعر تريستان تزارا، زعيم تيار الدادائية، من مان راي إنجازه، عملٌ على تقنية الفوتوغرام، أي استخدام حال الصورة الفيلمية ذاتها، ودمج أشياء معلقة ومتناثرة، وخطوط ودوائر وأشكال هندسية مبتكرة تتداخل وتتقاطع وتنفصل باختيار إيقاعات سريعة. كما لعِب على الضوء والظل، حيث يتناوب على جسد امرأة بجمال ذاك الزمن، مذكرًا ببطلة رواية "نادجا" لأندريه بروتون.
ما أنجزه مان راي في هذا الفيلم يتشابه مع أعمال فنانين تشكيليين حاليين، حيث يتم الإبداع على الصورة، لكنه سبقهم إلى ذلك قبل قرن من الزمان.
الغرابة في القصر
في فيلمه الأطول مدة "غرائب قصر دي" (26 دقيقة)، يظهر توظيف للمكان، الذي هو قصر أحد النبلاء الذي يظهر شخصيًا في الفيلم برفقة آخرين، ومن ضمنهم مان راي. هناك استخدام للطريق، والسفر، والأشياء، والحضور الإنساني. الجديد هنا هو الاعتماد على التصوير الخارجي، مع استغلال الضوء والظل ولعبة التخفي والظهور. لا شيء يبقى في مكانه، ولا شيء اعتيادياً. الغرابة تنبع من نظرة المخرج للأمور، حيث يغير من منطق النفعية أو الشكل الذي يميزها.
التوقف عن السينما
الغريب أنه قبل إنجاز هذا الفيلم، كان قد توقف مان راي عن ممارسة السينما وتفرغ للرسم والتصوير الفوتوغرافي. يقول: "في البداية ترددت. أكد لي النبيل أنه سيساعدني بأي طريقة ممكنة، وأن العمل سيكون مدفوع الأجر. وبما أنني سأكون حرًا تمامًا، وسيكون الفيلم وثائقيًا فقط، ولا يتطلب أي إبداع من جانبي، فسيكون عملاً ميكانيكيًا سهلاً، ولن يغير بأي حال من الأحوال قراري بعدم إخراج المزيد من الأفلام. كنت مطمئنًا لفكرة أن هذا الفيلم لن يُعرض على عامة
الناس".
هذا القول مأخوذ من موقع مدرسة الفنون الجميلة بمرسيليا، شعبة التصميم، ويؤكد ريادة مان راي في ميدان يُدرس حالياً. وأفلامه لا تزال تُعرض عالميًا، كدرس في السينما الفنية وأيضًا كوثائق ضاجة بـ "الحنين"(النوستولوجيا) لا يمكن لمن يشاهدها، إلا أن يعيش اللحظة كامتداد للزمن وقد صار يكاد في المتناول الإمساك به، أقصد حقيقته. وتلك تجليات سحر الحركة في الفن السابع.