فلاح المشعل
تعتمدُ العلاقات الدوليَّة في السياسة الخارجيَّة على فلسفة الدولة والنظام القائم وتوجهاته التي تضع الثوابت المنهجيَّة في التعامل مع الآخر، ويمكن للدولة أنْ تنعطفَ بهذه الثوابت نحو متغيرات يقترحها نمط سلوكيات الآخر، ومن هنا يأتي مفهوم التوازن ليحقق أعلى قدرٍ من المصلحة العليا للوطن والمواطن من جهة، ويرسخ مفاهيمَ ومبادئ السيادة
الوطنيَّة.
الدستور العراقي عالجَ هذا الموضوع الحيوي باقتضابٍ وثبت القواعد الأساسيَّة التي تقومُ عليها فلسفة الدولة العراقيَّة ونظامها الديمقراطي وفق المادة الثامنة من الدستور وتنص على ما يلي:
المادة (8): “يرعى العراق مبدأ حسن الجوار، ويلتزمُ بعدم التدخل في الشؤون الداخليَّة للدول الأخرى، ويسعى لحل النـزاعات بالوسائل السلميَّة، ويقيمُ علاقاته على أساس المصالح المشتركة والتعامل بالمثل، ويحترم التزاماته الدوليَّة”
وفق ما جاء أعلاه من مبادئ دستوريَّة صريحة، فإنَّ العراق يكون ملزماً بعدم التدخل في شؤون الدولِ الأخرى، وبحكم إيمانه بمبادئ حسن الجوار والسعي لحل النزاعات بالوسائل والطرق السلميَّة، فإنَّ الضرورة تقتضي أنْ يحافظَ على مصالحه الوطنيَّة أولاً وأخيراً.
الصراع المتصاعد بين الولايات المتحدة الأميركيَّة والجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران سوف لن يستثني العراق من إسقاطاته السلبيَّة وتأثيراته السلبيَّة، خصوصاً إذا أفضى الخلاف السياسي الى تحديات ساخنة وتطور الموقف الى صدامٍ مسلحٍ بين الطرفين، وهنا تأتي أهمية الموقع الجيوسياسي للعراق كمعيارٍ مهمٍ لكلٍ من أميركا وإيران، فلكل منهما وجودٌ وتمثيلٌ سياسيٌّ ومصالحَ تجاريَّة وروابطَ سياسيَّة مع الطبقة السياسيَّة الحاكمة وأحزابها التي وصلت للسلطة جراء إسقاط نظام صدام الذي نفذته أميركا باحتلال العراق عام 2003.
أميركا التي تجدُ في النظام والتحولات الحاصلة في العراق نتيجة لثمن باهظ دفعته بدماء جنودها وملياراتها التي أنفِقتْ على الحرب واحتلال العراق، يقابلها شعورٌ إيرانيٌّ صريحٌ بأنَّ الأحزاب المتسيدة على السلطة في العراق لم تجد الرعاية والدعم والإسناد إلا من إيران وترابطها العقائدي مع هذه الأحزاب وجماهيرها، ومن هنا نجد أنَّ محاور الشد والجذب والمناورة السياسيَّة تشتغلُ على أكثر من محور، ما يجعل العراق ساحة الحرب الأولى المرشحة لهذا التصادم المسلح إذا حدثَ، وما يزيد الأمر تأكيداً أنَّ كلاً من إيران وأميركا لهما من يؤيدهما في العراق.
بهذا التقديم الموجز والمكثف يجعل موقف العراق موقفاً حرجاً، خصوصاً أنَّ الموقف السياسي العراقي لا يعبِّرُ عن وحدة موقف وطني، ففي الوقت الذي أعلنت بعض الأحزاب السياسيَّة الشيعيَّة موقفها الداعم لإيران تجد أنَّ العديد من الأحزاب والقوى السياسيَّة الأخرى أحجمت عن إعلان موقفٍ صريحٍ من الصراع الأميركي - الإيراني وتطوراته، وحين تعلن مرجعيَّة النجف الأشرف رفضها جعل العراق محطة للاعتداء على الجيران، يقابلُ ذلك الموقف الحكومي الذي يتحرجُ عن إعلان موقفٍ صريحٍ من ذلك، وأحياناً يعلن رفض الاعتداء والحرب وابتعاد العراق عن سياسة المحاور ورفض تواجد القوات الأجنبيَّة، فإنَّ دلائل الواقع تشير الى ما يخالف
ذلك.
إنَّ الأزمة الحقيقيَّة التي يعاني منها العراق هي أزمة داخليَّة، يمكن توصيفها بكونها أزمة بنيويَّة حادة تتقاطع مع جوهر مبادئ الدستور، ولعلَّ أبرز مؤشرات هذه الأزمة في هذا المقطع التاريخي الذي تتبدى على مسرحه مظاهر التصدع العراقي، هي عدم وجود اصطفاف وطني إزاء القضايا المصيريَّة التي تهدد الوطن، وهذا الأمر ناتجٌ عن غياب دولة القانون في العراق وتعدد مراكز القوى والسلطة والقرار وتعدد الولاءات الطائفيَّة والإثنيَّة وانعدام الموقف الوطني الصلب، ما يجعل التأثيرات السياسيَّة للصراع الأميركي الإيراني في غاية السلبيَّة، بل لعله يكون سبباً في انقسامات عميقة وصراعات داخليَّة متعددة بحكم اقتراب هذا الطرف أو ذاك من الطرف الإيراني أو
الأميركي.
المطلوب في هذه اللحظة التاريخيَّة أنْ تتحفز القوى السياسيَّة العراقيَّة بجميع أطيافها وتدرك حقيقة أنَّ لا قيمة ولا وجود لها من دون وجود عراق قوي، الأمر الذي يتوجبُ على جميع هذه القوى أنْ تتجه نحو العمق العراقي، وتتفق على مشتركات وطنيَّة تقوي الموقف السياسي العراقي الرسمي، بموجب ما يتفق عليه من ميثاق وطني يعزز الوجود العراقي، ويبعده عن المنزلقات الخطيرة، فالعراق بلدٌ لما يزل مثخناً بالجراح، وينزفُ جراحات وأزمات ومعاناة بليغة، ويحتاج أنْ يبتعدَ عن أي تصدعٍ داخلي من خلال الابتعاد عن المحاور الخارجيَّة والاشتراك بحروبٍ وصراعاتٍ تزيده خراباً ودماراً.