مستر ترامب... أوروبا ليست عربة الموتى

آراء 2025/01/05
...

 نبيه البرجي


 لدى صدور كتاب جان ـ جاك سرفان ـ شرايبر "التحدي الأميركي"، وقد دعا فيه إلى تبعية الدول الأوروبية للولايات المتحدة، علّق الفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو، صاحب "الشرط الانساني" ووزير الثقافة في عهد شارل ديغول، بالقول "لكأنك تربت على كتفي أوديب، وتقول له حسناً قتلت أمك، لا داعي لكي تفقأ عينيك...".  سأل "هل كان لأميركا أن توجد، وأن تتطلع لتكون أعظم إمبراطورية على امتداد الأزمنة، لولا القارة العجوز؟". استدرك ليتحدث عن "اللحظات المجنونة" في التاريخ، وحيث كل شيء ينقلب رأساً على عقب. حتى أن التاريخ نفسه ينقلب رأساً على عقب.  المثير هنا أن الشرق الأوسط هو المكان الذي انقلب فيه تاريخ الغرب. حدث ذلك، خريف 1956، حين أمر الرئيس دوايت ايزنهاور رئيس الوزراء البريطاني أنتوني ايدن، والفرنسي غي موليه، إلى الانسحاب من ضفاف السويس، بعدما قاما، بالشراكة مع رئيس الوزراء الاسرائيلي دافيد بن غوريون، بتلك الحملة العسكرية ضد مصر، بسبب تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس. آنذاك كانت مانشيت "التايمز" اللندنية "خروجنا على ساق واحدة من... التاريخ" !

 منذ ذلك الحين لا دور لأوروبا سوى دور التابع. كان المثال الصاعق حين دعا الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، في الثمانينات من القرن الفائت، إلى عقد مؤتمر دولي حول الشرق الأوسط في مدينة البندقية الايطالية. في اليوم التالي، كتب توماس فريدمان مقالة في "النيويورك تايمز" بعنوان "موت في البندقية"، مستعيراً عنوان رواية الكاتب الألماني الشهير توماس مان. للتو أدرك الرئيس الفرنسي أن المنطقة محظورة الا على أميركا. من غير أميركا الآن و... غداً؟

 عبثاً حاول الاتحاد الأوروبي ارساء قواعد للتوازن الاستراتيجي في شقيه السياسي والاقتصادي، بين ضفتي الأطلسي. حتى أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي صرح لـ"الايكونوميست" بأن حلف الأطلسي أصيب بالسكتة الدماغية، داعياً إلى انشاء قوة عسكرية أوروبية مستقلة، ما لبث أن شعر بأن جدران الاليزيه بدأت بالاهتزاز. للتو انضوى تحت المظلة الأميركية، والى حد تجاوز موقف البيت الأبيض بالدعوة إلى التدخل العسكري المباشر في الحرب الأوكرانية.  كانت الذريعة آنذاك أنه حين تصل دبابات القيصر إلى كييف، لا بد أن تكمل طريقها إلى برلين وباريس وروما، ليذكّره المفكر الجيوسياسي الروسي ألكسندر دوغين بأن بلاده لم تتقدم، عبر تاريخها، خطوة واحدة نحو الغرب الأوروبي. خلاف ذلك الفرنسي نابليون بونابرت، والألماني أدولف هتلر، سقطا على أبواب موسكو.

 قبل أن نسأل أي أوروبا يريد دونالد ترامب، يطالعنا سؤال الفيلسوف الكندي آرثر شيفر "أي أميركا يريد دونالد ترامب ؟". "الولادة الأخرى للإمبراطورية الأميركية". الضغط من أجل أن تكون كندا الولاية الحادية الخمسين، لتغدو الولايات المتحدة الأولى عالمياً بالمساحة الجغرافية (19.811.345 كيلومتراً)، وبعدد سكان يناهز الـ 390 مليون نسمة، الثالثة بعد الهند والصين. ثم الاتجاه إلى شراء جزيرة غرينلاند (2.166.000 كيلومتر) التي ضمها ملك الدانمرك إلى بلاده، عام 1605. إلى ذلك الاستيلاء على قناة بنما بحجة قطع الطريق على الصين واختراق الأسواق الأميركية. قناة "فوكس نيوز" تحدثت عن اختراق الروح الأميركية.  الفيلسوف الفرنسي فرنسوا بورغا يرى أن إلحاق أوكرانيا بحلف الأطلسي رغبة أميركية في استنزاف روسيا، والحيلولة دون قيام ثنائية روسية ـ صينية تهدد بتقويض نظام القطب الواحد، ودون أن تكون لذلك أي علاقة بالأمن الاستراتيجي للقارة الأوروبية التي تكاد تستنزف هي، وحتى العظم، في حرب لامست أكثر من مرة "اللحظة النووية" !

 بورغا تحدث عن "لعنة زيلينسكي". أوروبا في الدوامة الأوكرانية أم في الدوامة الأميركية؟ لاحظ كيف أن التنين الأصفر يبتلع أسواق العالم. الحرب لم تعد تجري على أرض دولة بعينها وإنما على أرض البلدان الأوروبية كافة. واذا كان هناك من يرى في المستشار الألماني ـ الذاهب إلى الظل ـ أولاف شولتس، الرجل الذي أبدل عصا المايسترو بالعكاز الخشبية، يلقي الخبراء الاقتصاديون باللائمة عليه في التقهقر الاقتصادي الذي سببه "الذوبان في الحالة الأميركية". هكذا كان على موقع بلومبرغ في 16 كانون الأول / ديسمبر الفائت، القول إن المانيا وصلت إلى نقطة اللا عودة في تدهور اقتصادها ".  دونالد ترامب لا يخطط لتغيير الشرق الأوسط فقط، وهو يتغيّر. كيف يغيّر دوران الكرة الأرضية، دون أن يكترث بتحذير بورغا "مستر ترامب.. لا تظن أن بامكانك أن تجر أوروبا كمن يجر عربة الموتى " !