رحيل محمد جابر الأنصاري مُنَظِّر التوفيقيَّة في الفكر العربي
جواد علي كسار
في الأيام الأخيرة من السنة الميلادية المنقضية غيّب الموت المفكر العربي البحريني محمد جابر الأنصاري (1939ـ 26 كانون الأول 2024) وقد ترك من ورائه تراثاً معرفياً ثرياً وعميقاً، تقف على رأسه مدونتان أساسيتان عن الواقع العربي، وخرائطه الفكرية والسياسية إبان القرن الأخير.
تمثلت المدوّنة الأولى بكتابه الموسوعي المرجع: «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي» وقد صدرت طبعته الأولى من الكويت قبل أربعة عقود ونصف من الآن (عالم المعرفة، الكتاب رقم 35، تشرين الثاني 1980) قبل أن يعود إلى تناول موضوع النهضة العربية نفسه، مفتشاً هذه المرّة عن معوّقات عدم النهوض في الاعضال المعرفي المتمثل بـ «التوفيقية» حسب رأيه، والتجليات الاجتماعية والسياسية لهذه الخصلة، وما تقود إليه من صراع بين أضدادها تتسيّد فيه صفة أو حالة «اللا حسم» الحياة العربية برمتها، وقد راحت تنهك الإنسان العربي وتجهز على طاقته في التقدّم والنهوض، من خلال اشغاله باصطناع المركبات التوفيقية، بدلاً من مواجهة الجدليّات المحظورة في حياته؛ كلّ ذلك بحسب مدوّنته المعروفة: «الفكر العربي وصراع الأضداد» (ط 2، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، 1999، 668 صفحة من الحجم الكبير).
تحولات الفكر والسياسة
الهاجس الذي انطلق منه في المدوّنة الأولى، هو البحث عن أسباب تخلف الواقع العربي، عبر تفسير مستمد من تراثه وحضارته وذاتيته، وليس من قراءات الآخرين، فقاده ذلك إلى رحلة في الفكر والسياسة والاجتماع، وهو يضع اليد وصفياً وتحليلياً على ثلاثة اتجاهات كبرى؛ هي الإحياء السلفي بوصفه حالة متجاوبة مع تحديات الغرب في المرحلة الاستعمارية، ثمّ تيار التصالح التوفيقي الذي انطلق على أنقاض السلفية ليكون مشروعاً للنهضة عبر إقامة توازن مفترض بين الإسلام والحضارة الأوربية، وأخيراً تيار العلمنة والرفض وهو يقوم على أساس الاستيعاب الجوهري للحضارة الغربية، وفصل الإطار الديني عن مهام بناء الدولة الحديثة المتقدّمة (تحولات الفكر والسياسة، ص 5ـ 33).
كان الفشل هو المآل الذي انتهت إليه عملياً التيارات الثلاثة مجتمعة، إذ لم يستطع أي واحدٍ منها أن يكتسح الساحة ويحقق نصراً حاسماً على الأرض. وهو الأمر الذي دفع إلى تراجعها جميعاً واحتمائها بتكييفات توفيقية. هكذا تراجعت السلفية المتصلبة وضدّها العلمانية المتطرّفة، لصالح تكييفات توفيقية جديدة، لكن بعد أن أحدثت انشطاراً استوطن العقل العربي بحسب وصف الأنصاري، أنهك العالم العربي وجعله منشغلاً بإيجاد تكييفات بين الأصالة والمعاصرة، والعلم والدين والإسلام والغرب (تحولات الفكر والسياسة، ص 37ـ 78).
إخفاق الليبراليَّة
لم تؤدِّ الجهود العربيَّة في بواكيرها الأولى فكريّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، إلا إلى إخفاق الليبرالية العربية بشوطها الأول عبر ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ما فتح الباب إلى انقلاب أو تحوّل عميق تام على قاعدة مرتكزات ثلاثة، هي: تسييس الإسلام العربي، وتعريب مصر سياسياً، وتثوير الطبقة المتوسطة، دائماً على حدّ قراءة الأنصاري (المصدر، ص 81ـ 174).
إخفاق الليبرالية وعجز المشاريع الأحادية أدى إلى انهيار «النظام القديم» في المشرق العربي، وبشر اجتماعياً وسياسياً وفكرياً، بانبثاق نظام جديد، قام بدوره على مؤسّسات ثلاث، هي:
1ـ المؤسّسة التربوية الحديثة.
2ـ المؤسّسة الحزبية العقائدية الثورية.
3ـ المؤسّسة العسكرية الوطنية (المصدر، ص 175ـ 187).
كان يُفترض بهذا الارتكاز الجديد أن يمثل حلاً للمشكلة الاجتماعية في العالم العربي، بيدَ أنه وبالعكس تماماً أفضى إلى استشراء العنف فكرياً، ولم يعطّل بناء الدولة العصرية وحدها، بل عطّل الاقتصاد والنمو الاجتماعي والإنساني أيضاً، وأدّى إلى تفكّك العقد الاجتماعي أو ما تبقى منه.
عام التفجّر الدموي
واحدٌ من المنعطفات البارزة على هذا المسار بحسب قراءة الأنصاري هي هزيمة فلسطين عام 1948م، وكيف أعادت إلى الواجهة المشكلة السياسية لنظام النكبة العربي، بواجهاتٍ عنيفة. يُلاحظ الأنصاري في رصد العنف بصفته واجهة للمشكلة السياسية في الشرق العربي، أن شهر كانون الأول عام 1948م شهد اغتيال النقراشي رئيس وزراء مصر؛ وفي شباط 1949م اغتيل حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين؛ وفي آذار 1949م أطاح الجيش السوري بالنظام؛ وشهد العراق انتفاضة شعبية في كانون الثاني 1948، ضدّ معاهدة جديدة مع بريطانيا، واستمرّ العنف السياسي بإعدام الحكومة الملكية ثلاثة من كبار الحزب الشيوعي العراقي على رأسهم فهد، تلا ذلك في تموز 1949 إعدام أنطوان سعادة مؤسّس الحزب القومي السوري في لبنان؛ وفي آب 1949 شهدت سوريا الانقلاب الثاني وأعدم زعيم الانقلاب الأوّل؛ كما اغتيل عبد الله ملك الأردن عام 1950، أعقبه اغتيال رياض الصلح رئيس وزراء لبنان عام 1951 (المصدر، ص 217).
هذا التفجّر الدموي بحسب الأنصاري، هو حصيلة صراع بين قوى ثلاث، هي المؤسّسة السياسية القديمة، والمؤسّسة الحزبية الجديدة، والمؤسّسة العسكرية، أدّى إلى إنتاج صيغة جديدة، هي التوفيقية التسلطية، مفادها عجز الأحزاب وحدها على إحداث التغيير، فتقدّم الجيش ليمارس الانقلابات باسم الثورات، ويتحرّك العسكر على خطٍ موازٍ من معسكرات الجيش إلى السياسة ثمّ إلى صياغة المذهبيات العقدية. وهذا هو عين التناقض والتضاد في التوفيقية التسلطية، التي لم تبقَ في حدود السياسة وعسكرة الدولة وحدها، بل اتجهت إلى احتكار الحياة الثقافية والاجتماعية، عبر مركبات تنظيرية نقيضة وباهتة، كما عاش العالم العربي نماذجها فيما بعد بأمثلة من قبيل: «فلسفة الثورة» لجمال عبد الناصر، و«النظرية الثالثة» للقذافي، و«تنظيرات» حزب البعث في بغداد ودمشق، وذلك في ظل انحسار التوفيقيات الفكرية التنظيرية الضخمة ومدوّناتها ورموزها البارزة، إبّان مرحلة التوفيقيات التقليدية بنسختيها السلفية والليبرالية (تحولات الفكر والسياسة، ص 218ـ 227).
ملاحظة نقديَّة
انطلقت التوفيقية التسلطية سياسياً مع مطلع خمسينيات القرن الماضي بانقلاب عبد الناصر في مصر عام 1952، وما تلاه من انقلابات أُخر في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان، وصعود موجات التنظير التوفيقي القومي بشقيها الناصري والبعثي، مقابل انكفاء حركي وسياسي واضح للتيارين الإسلامي والليبرالي، بانتظار نقطة انعطاف جديدة، ضربت العالم العربي برمته، اقترنت هذه المرّة بعودة كاسحة للتيار الإسلامي مع أوائل ثمانينيات القرن العشرين.
قبل أن نستكمل قراءة الأنصاري للواقع العربي مجدداً، لا بدَّ من إشارة نقديَّة إلى الإطار المنهجي للتفسير الذي قدّمه في كتاب «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي» إذ هو لا يخرج برأينا عن الإطار المنهجي الذي أبدعه البرت حوراني، وبقي موجهاً منهجياً أساسياً للكثير ممن جاء من بعده، قبل أن تكسر احتكاره مشاريع تنظيرية لاحقة كتلك التي اقترنت بمحمد عابد الجابري وفؤاد زكريا ومحمد آركون وفهمي جدعان وعبد الله العروي وحسن حنفي وغيرهم كثير.
فمن الواضح أن أطروحة الأنماط الثلاثة في الحياة الفكرية الحديثة للعالم العربي، هي جوهر العمل التنظيري الريادي لآلبرت حوراني (1915ـ 1993) ضمن كتابه الأشهر «الفكر العربي في عصر النهضة» الذي قام على أساس توزيع تيارات هذا الفكر ضمن مدارس ثلاث، هي: السلفية والتوفيقية والعلمانية (يُنظر: الفكر العربي في عصر النهضة، آلبرت حوراني، الترجمة العربية، بيروت، 1977م). كما يظهر التنظير الثلاثي نفسه في محاولة أخرى سبقت أطروحة الأنصاري ببضع سنوات، هي: «الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة» (علي المحافظة، بيروت، 1980).
عقدان من التأخير
صدر كتاب الأنصاري «الفكر العربي وصراع الأضداد» للمرّة الأولى منتصف عام 1996، والطبعة الثانية التي بين يدي مطلع عام 1999. لكن الأنصاري يذكر في إشارة توثيقيّة، أن المادّة العلمية الأساسية لهذا الكتاب تعود إلى تشرين الأول عام 1979، عندما قدّمها كأطروحة دكتوراه إلى الجامعة الأمريكية، وهي موثقة في قسم الأطروحات بالجامعة منذ ذلك التأريخ. وقد استلّ منها أجزاء لتصدر ضمن كتابه: «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي» (الفكر العربي وصراع الأضداد، ص 669).
يبرّر الأنصاري هذا التأخير ويعيده إلى أوضاع خارجة عن إرادته تتعلق بحرية الفكر في تلك البرهة وإمكانات النشر، وإشارة مبطنة إلى الإقصاء الناشئ عن الانتماء إلى بلد صغير هو البحرين وسط سطوة النزعة الثقافية المشرقية ومركزيتها. لذلك أراد لكتابه أن يأخذ موقعه زمنياً في نطاق ذلك التأريخ، ليحظى بنصيبه الذي يستحق بين مشروعات دراسة الفكر العربي (الفكر العربي وصراع الأضداد، ص 7).
أطروحة صراع الأضداد
على امتداد مئات الصفحات من كتابه الأطروحة: «الفكر العربي وصراع الأضداد» أفاض الأنصاري بتقديم صورة وصفية لحركة الفكر العربي الحديث في أبرز تياراته واتجاهاته، تحدّدت في منظومة ثلاثية أضلاعها التكوينية، هي السلفية والعلمانية والتوفيقية، لكن مع استطالة وهيمنة للتوفيقية، إذ عُدّت الأخيرة سيّدة البوصلة الفكرية في أبرز تيارات هذه المنظومة، والمؤشر الحاسم على المواقف في الفكر والسياسة والاجتماع، بعد أن استطاعت إزاحة أو تهميش السلفية والعلمانية، وأن تتبوأ قلب المشهد فكرياً وعملياً.
لم تكن المؤشرات الثلاثة لحركة الفكر في الواقع العربي الحاضر وليدة الساعة، أو أنها جاءت نتيجة لما يُطلق عليه «عصر النهضة العربية» أو «صدمة الحداثة» والتعرّف على الغرب، بل كان امتدادها العميق ووجودها العريق في الحياة الفكرية للمسلمين والمراحل الأولى من تاريخ مسارهم الفكري. ففي نطاق التحليل التاريخي أعاد الأنصاري الجذور التأسيسيَّة لهذا التكوين الحديث، إلى جدليّة مماثلة في تاريخ الفكر الإسلامي نفسه، استقرّت لديه عند ثلاثة أنماط أساسية، هي النمط الأصولي النصوصي السلفي ومرجعيته النقليّة، والتوفيقي الذي وظّف العقل إلى جوار النقل ورام التوفيق بين المعقول والمنقول والوافد والأصيل، ثمّ نمط ثالث منجذب كما يرى، إلى مؤثرات خارجية ذات طابع باطني عقلاني، أو طابع عقلاني دهري إلحادي (الفكر العربي وصراع الأضداد، ص 25ـ 35).
بيئات جغرافية موازية
في مسار استكمال هذه الأطروحة، لاحظ الأنصاري أن هذه الأنماط التاريخية الثلاثة من الفكر استوطنت جغرافياً في بيئات ثلاث، فكانت البادية والريف والأطراف النائية في العالم الإسلامي هي حاضنة السلفية، في حين نشأت التوفيقية وازدهرت في العواصم والأمصار ومناطق العمران ومراكز التجارة والتبادل الحضاري، كما كان من دأب النمط الفكري الثالث أن ينبثق من داخل البيئات ذات التكوين الحضاري المتصلّب الذي يأبى الانصهار في الكلّ الإسلامي، فيقاومه بفكرٍ متزندق أو رافضي أو خارجي أو عقلاني متحرّر، وهذا النمط يسود في الأغلب لدى العناصر الإنسانية ذات الخصائص الدينية والعرقية المناهضة عامة للإسلام العربي، على حدّ توصيف الأنصاري (المصدر السابق، ص 35ـ 38).
ضمن هذا الإطار المنهجي المبكر لتيارات الفكر العربي الذي سبق مشاريع عدّة صدرت بعد ذلك وذاع صيتها في العالم العربي، ينقلنا الأنصاري إلى جولة مهمّة في أروقة الفكر العربي الحديث لا سيّما اتجاهاته التوفيقية في الفكر والسياسة والاجتماع، لتكون واحدة من محطاته فصلاً عن تجاذبات الفكر الشيعي بين العقلانية العربية والعرفانية الفارسية، كما جاء في كتابه (الفكر العربي وصراع الأضداد، ص 285ـ 317).
الخاتمة والتقويم
يؤكد الأنصاري ضمن إطار يقترحه لقراءة أطروحته عن صراع الأضداد على مدخلين لهذه القراءة، الأوّل أن يكون الجزء الفكري (القسم الأول والثاني من الكتاب) هو مدخل إلى الواقع العربي المعاصر؛ أو أن يفعل العكس فيجعل الواقع المعيش هو المدخل إلى نظرية التفسير متمثلة بالجانب الفكري. والحصيلة التي انتهى إليها في الخاتمة المكوّنة من (17) نقطة (ص: 589ـ 649) هي أن الشخصية العربية المعاصرة لم تزل ترزح تحت وطأة التوفيقية، وهي: «تعاني تمزقها الفعلي الفاجع بين الأضداد والنقائض بوعي فوقي توفيقي متفائل مخادع» (المصدر، ص 646).
لا نريد أن نحكم على التوفيقية التأريخية والحديثة والمعاصرة من واقع النقاش الفكري، فذلك موضوع آخر ليس هذا محله، وإنما يعنينا في التقويم إمكانية الفصل الحاصل فعلاً بين الجانب العقدي والمتبنيات الفكرية، والواقع السياسي وبناء الدولة وإحراز التقدّم. ليس المقصود نفي العلاقة بالمطلق بين المسارين والتفاعل القائم بينهما سلباً وإيجاباً، بقدر ما نريد القول بإمكان بناء الدولة الحديثة وتحقيق مقاصد المجتمعات في المعيشة والرفاه على أساس العدل، من دون حاجة لتعليق هذا المسار، على حسم التوفيقية على الخط الفكري.
ما تحقق في العالم العربي برمته قبل الثمانينيات من منجزات نسبية، ثمّ مع التوفيقية وبوجودها بعد ذلك؛ وما حصل من انكسارات في الدولة والمجتمع والاقتصاد لم يحصل بفعل التوفيقية وبضغطٍ منها وبسببها. وما هو حاصل اليوم من نمو في بعض بلدان الخليج بما فيها البحرين نفسها، هو دليل آخر على إمكان التقدّم، من دون أن نعبأ كثيراً بجداليات الفكر وسجالياته.
اما إذا نقلنا أبصارنا صوب تجارب ناهضة في الشق الأعجمي من العالم الإسلامي، فإن ما سجلته ماليزيا وإيران وتركيا واندونيسيا والباكستان وجمهوريات آسيا الوسطى من تقدّم، هو دليل حاسم على إمكان الفصل بين المسارين، وأن تقدّمنا في بناء الدولة وتطوير التنمية لا يرتبط علياً بالتحرّر من التوفيقية.