ماجد الملا
إنَّ عملية التلحين لن تكون حرفة او صناعة يدويّة، إنّما صناعة فكريّة وحسيّة، فهي استلهام لمخزون جمالي مرتبط بمفاهيم التعبير عن الذات واستحضار مكامن الإبداع في عقلية الملحن وتدوينها عبر مجسّات الإحساس لتنغيمها لتكون شكلا فنيا جاهزا.
هناك مميزات لكل ملحن وطريقته في التعبير من حيث الصياغة والبناء اللحني وأيضا في طريقة الأسلوب والطابع الجمالي والتركيب الهيكلي والشكلي لقوالب موسيقية مختلفة.
هناك من يستخدم مقام واحد ولا يجازف بالمرور إلى مقام آخر، وهناك من يخلط مقامين او ثلاثة او اربعة، وهناك من يبدأ لحنه بالدرجة الأساس الأولى وأحيانا الثانية او الثالثة او الخامسة او الثامنة وهي جواب الدرجة الأساس وهناك من يبدأ هبوطا إلى الدرجة الثالثة وهناك شواهد كثيرة.
لكل ملحن طريقته في البناء اللحني، أما طالب القره غولي، فهو يمتاز عن الآخرين من خلال تلحين الكلمة ويعطيها مساحة من التعبير النغمي بعكس الآخرين عندما يلحن يبدأ بشطر كامل من النص ويضع لحنه عليه حتى تحس أحيانا بعدم التجانس بين اللحن والكلام وهذا يعطينا إحساسا أكبر بالصيغ التعبيريّة لكل كلمة من النص الغنائي.
أغنية "البنفسج" هي النموذج الأقرب للتحليل كوني أعشقها لثلاث أسباب:
أولا- المقدمة الموسيقية وما تحمله من تنوع في النغمات والانتقالات، وايضا تنوع الشكل الايقاعي مما يعطيها تميزا وتفردا.
ثانيا- إنّها من الأغاني التصويرية والتعبيرية وفيها ترجمة لإحساس متناهٍ بالكلمة والنص.
ثالثا- لأنّها تتكوّن من تسع مقامات رئيسيّة وفرعيّة وهي النهاوند - الكرد - السيكاه - البيات - الحجاز - الصبا - الرست – اللامي، فضلا عن العجم الذي استخدمه في المقدمة الموسيقيّة، وهذا لم يحصل في بناء اي نص غنائي.
أغنية "البنفسج" هي من مقام النهاوند على درجة لا وهي من المقامات الرئيسية في السلم الموسيقي العالمي ويسمّى بالسلم الصغير ودرجته الأساس هي (لا) قرار، ويتكون من جنسين الأول نهاوند والثاني حجاز على درجة (مي) صعودا ويرجع نزولاً كرد على (مي)، ويستقر نهاوند على الدرجة الأساس وهو في جمع منفصل يبدأ جنسه الثاني من الدرجة الخامسة.
فقد استخدم الملحن كل فروع النهاوند وهي الفرح فزا والنوى والشوق انغيز وبعبقريته المعهودة استخدم هذا المقام ليلعب بنغماته على تقليب المقامات التسعة التي أطرت لحنه، وقد أكون مبالغاً اني لن أرى في اي نص غنائي ان يتلاعب الملحن بتسع مقامات في أغنية واحدة وتمر الاغنية بسلاسة من خلال العبور من مقام إلى آخر، وانت تستمتع بانسيابيّة اللحن من دون وقوعه في مطبات الانتقال من مقام إلى آخر بتناغم وتوافق غير مسبوق مما يعطي المتلقي ان وراء هذا اللحن موهبة وفكرا موسيقيا ناضجا وعبقرية في جمع أدوات حقيقية في عالم التلحين، وقد تسمعوها على آلة العود أكثر وضوحاً لتعطينا مؤشراً أن البنفسج هي قطعة من أجمل الألحان وأعذبها.
وإليكم طريقة الانتقالات النغميَّة من نغمة الابتداء إلى نغمة الانتهاء.. يبدأ الملحن من الدرجة الثالثة لمقام النهاوند ثم ينتقل صعوداً إلى مقام اللامي سي ثم يستمر بالصعود إلى مقام السيكاه على درجة دو كار ديز ثم ينتقل إلى البيات مي ثم يستقر كرد على المي قرار ثم ينتقل إلى الصبا مي ثم بعدها الحجاز مي ثم الصبا بعدها الرست لا ثم يرجع إلى المقام الرئيسي، أما المقطع الأخير فيبدأه بالصبا مي ثم ينتقل إلى السيكاه ويستقر في النهاية على النهاوند والدرجة الأساس، وبهذا خلق الملحن خلطة سحرية بين مقامات من الصعب تجميعها، لكنّه فعلها طالب القره غولي بعبقرية في التلحين لروحه الرحمة والمغفرة ويبقى اسمه خالدا في الذاكرة ونغما في حناجر الأجيال
المقبلة.