دورة الدم من {الرحاب} إلى {النهاية}
جاسم الحلفي
قدّمت لنا رواية (الزعيم .. خرائط وأسلحة) سرداً متعدّد الزوايا يواكب تحول العراق من الملكية إلى الجمهورية من خلال حركة الضباط الأحرار. تبدأ الرواية بمشهد اعتقال عمر الأوقاتي وسجنه في قصر النهاية، كان اسمه قصر الرحاب في العهد الملكي، حيث قُتلت العائلة المالكة، وبدأ فصل دموي في تاريخ العراق. هذا الحدث يُبرز دائرة العنف التي باتت سمة التحولات السياسية، مع استمرار المآسي والقمع دون أفق حقيقي للتغيير.
تكشف الرواية، من خلال تحليل الخطابات الأيديولوجية المتصارعة، عن الخلفيات الفكرية والاجتماعية التي شكّلت مسار الصراع السياسي في العراق الحديث، معتمدة على التوثيق التاريخي لتقديم قراءة نقدية عميقة لتحولات البلاد.
تستلهم الرواية منهج المؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم، إذ تتبنى الرؤية القائلة بأنَّ تاريخ البشرية وحدة مترابطة تخضع لقوانين المادية التاريخية. وفق هذا المنهج، لا يمكن فصل تاريخ أي مجتمع عن السياقات الأوسع التي يتأثر بها ويؤثر فيها. تسير الرواية على هذا الخط، مشيرة إلى أنَّ التغيرات الاجتماعية والسياسية في العراق لم تكن معزولة عن التأثيرات الخارجية والتحولات العالمية، بل كانت جزءاً من شبكة من العلاقات المتبادلة التي تربط بين الشعوب والطبقات في صراعها من أجل التحرر أو السيطرة. هذه المقاربة تمنح الرواية شهادة على التاريخ المحلي من جانب، وكجزء من السردية الكبرى للتحولات البشرية من جانب آخر.
الزمان والمكان
يتنقل الزمن السردي بين الماضي والحاضر، مع استرجاع الأمكنة والأحداث التي شكّلت الشخصيات. التداخل الزمني والمكاني يثري النص ويوضح الخلفيات الاجتماعية والتاريخية للأحداث، مما يعزز فهم القارئ للتغيرات التي شهدها العراق.
يتناول الفصل الأول، الذي يحمل عنوان “الأبناء والأسلحة”، أحداثا تتعلق بالسابع من شباط 1963، ثم ينتقل سريعاً إلى التاسع، اليوم الذي أعقب مقتل الزعيم، يسترجع مشهد (صورة وجه يوم مقتله بالأسود والأبيض، والمنشورة في مجلة التايم البريطانية) ، متجاهلاً يوم الانقلاب المفصلي في الثامن من شباط. يبدو أنَّ الكاتب عمد إلى هذا التغافل لإبراز تبعات الحدث بدلاً من تفاصيله المباشرة، مُستخدماً (الصمت السردي) لإثارة التأمل والتفاعل، وربما تمهيداً لجزء ثانٍ.
زمانيا: الرواية تمتد على مدى 44 عاماً من تاريخ العراق، من ولادة عبد الكريم قاسم عام 1914 إلى ثورة 14 تموز 1958. يبدأ السرد بتركيز على نشأة الزعيم وولادته في (منزل فقير يتكون من حجرة واحدة فقط) ، الأب قاسم (نجار فقير لا أكثر ولا أقل، رجل نحيف أشبه بخيط، لا يقرأ ولا يكتب) مما يبرز جذوره الطبقية. يسكن في محلة المهدية، والأم امرأة مسكينة تُدعى كيفية حسن يعقوب. الرواية تُجسد مساراً متشابكاً بين حياة عبد الكريم قاسم والتاريخ العراقي الحديث، حيث يبدأ النص بولادة شخصية متواضعة في ظروف قاسية وينتهي بثورة تعيد تشكيل النظام السياسي والاجتماعي في العراق. هذه الرواية ليست مجرد سرد لحياة قاسم، بل هي مرآة للتحولات الكبرى التي شهدها العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين، مع التركيز على قضايا الفقر والصراع الطبقي والطموح الوطني.
أما مكانياً، فيحتل قصر الرحاب مكانة محورية، إذ كان مسرحاً لتصفية العائلة المالكة، ثم تحول إلى “قصر النهاية”، كمسرح للعنف المستمر، بل كمسلخ بشري رهيب. بذلك، يُبرز القصر رمزية عميقة كموقع يعكس التحولات الدموية في تاريخ العراق.
الشخصية المحورية:
يتصدر الرواية (عبد الكريم قاسم) كشخصية محورية وقائد حقيقي لتنظيم الضباط الأحرار، إذ وضع خطة الإطاحة بالنظام الملكي ونفذها بإحكام، موحداً تيارات قومية ويسارية ووطنية ديمقراطية، تحت هدف وطني مشترك. تؤكد الرواية دوره الأساسي في تأسيس التنظيم، وتحديد الأهداف الاستراتيجية والجدول الزمني للثورة التي نفذت عام 1958، مع إشارة إلى أنها كانت طموحة لتُصنّف بين أعظم الثورات العالمية كالثورة الفرنسية والبلشفية .
أما عبد السلام عارف، فقد كُلف بدور تنفيذي تمثل في السيطرة على إذاعة بغداد وقراءة البيان الأول للثورة، معلناً سقوط الملكية وبداية عهد الجمهورية، مما يضعه في موضع ثانوي مقارنةً بقاسم.
تحول المؤسسة العسكرية في العراق: من أبناء الذوات إلى أبناء الفقراء
شهد الجيش العراقي تحولاً جذرياً في تركيبته الاجتماعية، مع انسحاب أبناء العائلات الميسورة التي اغتنت (بعد اندماج الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، أخذ شبابها يعزفون عن الدخول بالسلك العسكري) ، مفضلين قطاعات أقل خطورة وأكثر ربحية كالتجارة. في المقابل، وجدت الطبقات الفقيرة من الفلاحين والعمال في المؤسسة العسكرية فرصة للارتقاء الاجتماعي، حيث وفرت لهم الرواتب والامتيازات استقراراً اقتصادياً طالما افتقدوه. تحول الجيش إلى فضاء اجتماعي جديد يعكس صعود الطبقات المهمشة، وأصبح رمزاً للتغيير الاجتماعي ومحركاً لتحولات اقتصادية وسياسية أعمق، تعكس ديناميات المجتمع العراقي وتطوراته.
الضباط الأحرار والميول السياسية:
تركّز الرواية على ثلاثة توجهات فكرية داخل حركة الضباط الأحرار: القومي، الشيوعي، والوطني الديمقراطي. يمثل عبد السلام عارف الاتجاه القومي المتأثر بجمال عبد الناصر، مركزاً على الوحدة العربية كهدف محوري، لكنه يُظهر حماسة عاطفية تفتقر إلى العمق الفكري. أما الاتجاه الشيوعي، الذي يمثله ضباط كوصفي طاهر وجلال الأوقاتي والمهداوي، فيدفع نحو العدالة الاجتماعية والمساواة الطبقية. يتبنى عبد الكريم قاسم الاتجاه الوطني الديمقراطي، مفضلاً سياسات إصلاحية تدريجية، تعمل على (إلغاء قوانين الإقطاع، إلغاء امتيازات طبقة الأثرياء، المساواة في الحقوق الطبيعية بين البشر) . تُبرز الرواية تحدي التوفيق بين هذه التيارات المتباينة، حيث نجح قاسم في قيادة التنظيم بفضل شخصيته الكاريزمية ورؤيته المتزنة، رغم الانقسامات الداخلية والضغوط الأمنية. استطاع قاسم، بخطة دقيقة وسرية، تحقيق ثورة 14 تموز 1958، فقد حدد هذا التاريخ بناء على قرار سفر الملك إلى تركيا في هذا التاريخ (برفقة خاله عبد الاله ورئيس وزرائه نوري باشا السعيد) .
السياق الثقافي والفكري
وتُبرز الرواية التنوير والتحديث، وأفكار كبار المفكرين والصراع الفكري والكتب التي يقرأها المثقفون، وتتوقف عند دور الحلقات الماركسية الثلاث في بغداد والبصرة والناصرية، حلقة حسين الرحال أول حلقة في العراق في بغداد، حلقة عبد الحميد الخطيب في البصرة، وحلقة يوسف سلمان يوسف (فهد) في الناصرية، كأدوات محورية لنشر الوعي الطبقي وتحريك المجتمع العراقي. كما تسلط الضوء على الصحافة التقدمية، مثل جريدة “الصحافة” التي أسسها حسين الرحال، في تعزيز الفكر التنويري. الأدب أيضًا يُعد أداة للتغيير، حيث يظهر جميل صدقي الزهاوي كرمز للفكر التنويري، إذ يقول (أنا شاعر قرأت دارون والمصلح التركي عبد الحقّ حاميت، وآمنت بالعلم وحاربت الخرافات التي يروّج لها رجال الدين في الإمبراطورية العثمانية) ومعروف الرصافي كمعبّر عن الغضب الشعبي والاحتجاج، مما يُجسد تأثير الثقافة في التحولات الاجتماعية والسياسية.
أجوبة عن ثلاثة أسئلة:
1. متى وقع أول انقلاب عسكري في تاريخ العراق الحديث؟ وقع في 29 أكتوبر 1936 ونفذه الفريق بكر صدقي. كان هذا الحدث أول تدخل مباشر للجيش العراقي في السياسة منذ تأسيس الدولة الحديثة عام 1921، مما أدخل العراق في مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي نتيجة تدخل المؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية. بذلك يتأكد أنَّ بكر صدقي، وليس عبد الكريم قاسم، هو قائد أول انقلاب في تاريخ العراق.
2. من هو قائد ثورة تموز؟ تؤكد الرواية أنَّ عبد الكريم قاسم كان العقل المدبر لثورة 14 تموز 1958، حيث قاد الثورة من التخطيط إلى التنفيذ، في حين لعب عبد السلام عارف دوراً تنفيذياً في احتلال مبنى الإذاعة، وإعلان بيان الثورة. بعد نجاح الثورة، تولى قاسم رئاسة الوزراء وبدأ جهوداً لإصلاحات اجتماعية واقتصادية تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة، وإنهاء التبعية البريطانية، مما جعله رمزاً للتغيير الوطني الاجتماعي في تلك الحقبة.
3. مـــن أمر بقتل العائلة المالكة؟ تُبرئ الرواية عبد الكريم قاسم من مسؤولية تصفية العائلة المالكة خلال ثورة 14 تموز 1958، مؤكدة أنَّ الحادثة كانت نتيجة تصرف فردي من الضابط عبد الستار العبوسي، الذي أقدم على إطلاق النار في قصر الرحاب دون أوامر من قاسم. الرواية تُظهر قاسم كقائد ملتزم بتحقيق أهداف الثورة دون اللجوء للعنف الدموي، حيث استنكر الحادثة لاحقاً. بينما أثنى عارف على العبوسي وقال له (عافرم زين سويت)
دلالات أدبية وفكرية:
• السرد كمرآة للتحولات: تعكس الرواية التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق من خلال حياة عائلة عبد الكريم قاسم، التي نزحت من بغداد إلى الصويرة بسبب الفقر، قبل العودة مع تحسن البنية التحتية وظهور فرص جديدة. تُبرز الرواية التفاوت بين الريف والمدينة وتأثير الاستعمار البريطاني، مقدمةً حياة العائلة كنموذج لمعاناة المجتمع العراقي. السرد يجعل قصص الأفراد مرآة للتغيرات الكبرى، مسلطًا الضوء على دور الأدب في فهم التاريخ الاجتماعي والاقتصادي.
• تحولات القصر: قصر الرحاب وتغيير اسمه إلى قصر النهاية، يرمز إلى الوطن، حيث يعكس تحولاته العميقة من موقع للترف والطموح إلى مسرح للعنف والدموية. يصبح القصر مرآة لواقع العراق، الذي يعاني من أزمات دموية متكررة، مما يجسد صراعات الوطن وانكساراته عبر الزمن.
• دورات الأزمة: حيث تبدأ وتنتهي في المكان نفسه وسط مشاهد دموية متكررة. هذا التسلسل الدائري يُظهر أنَّ الأزمات تعيد إنتاج نفسها باستمرار، مما يُضفي مغزى فكرياً سوداوياً يعكس غياب القدرة على كسر هذه الحلقات المتكررة من العنف والمعاناة.
• الدم كلغة للتاريخ: الدم كرمز يتجاوز كونه نتيجة للعنف، ليصبح لغة تكتب بها فصول تاريخ العراق الحديث. تسلط الضوء على الإنسان العراقي العالق في طاحونة الموت، حيث تُبرز معاناته الفردية والجماعية تحت وطأة الأنظمة القمعية المتعاقبة، التي حوّلت حياته إلى سلسلة متكررة من الألم والاضطهاد.
• الصورة الشمسية: تُجسد التناقض بين الفخر الفردي والحزن الجماعي، حيث تُبرز البدلة العسكرية والنجمة الذهبية حلم أبناء الفقراء في تحقيق الارتقاء الاجتماعي. خلف الابتسامة الواثقة للشخصية يقبع كفاح الأمهات ومعاناتهن، اللواتي يجدن في الصورة رمزاً لتعويض سنوات طويلة من الفقر والمشقة. تُصبح الصورة مزيجاً بين الحلم والألم، شهادة على صمود الإنسان أمام واقع قاسٍ، ورمزًا للأمل المتجدد وسط المعاناة.
• الصراع الطبقي: الرواية تسلط الضوء على التناقضات الطبقية التي حكمت المجتمع العراقي في القرن العشرين، مركزة على الانقسام بين أقلية غنية تهيمن على السلطة وأغلبية مسحوقة تعاني الفقر. حيث تم (تمليك الشيوخ الأراضي الواسعة، وأصبحوا لوردات أو أشبه بنبلاء أوروبا في القرون الوسطى) ، بينما (أصبح الفلاحون المشردون أشبه بمشرّدي الإقطاعيات الكبيرة في المدن الأوروبية الكبيرة في العصر البرجوازي) . جسدت شخصية عبد الكريم قاسم هذا الصراع، إذ يمثل ابن النجار الفقير الذي تحدّى ظروفه الاجتماعية وصعد إلى مركز القرار. حيث وجد أن تغيير الأوضاع مرتبط بتغير النظام حيث (تفوح منه رائحة غريبة ويجب تدميره بالكامل) ، وهكذا فقد شكلت نشأته المتواضعة رؤيته السياسية المنحازة للفقراء، وتحوله إلى رمز لطموحات الطبقات الكادحة في بناء مجتمع أكثر عدالة.
• الحزب الشيوعي العراقي: يلعب دوراً محورياً في مواجهة الاستغلال الطبقي، حيث قاد النضال لتحرير العمال والفلاحين تحت قيادة فهد وسلام عادل. جسّد فهد التحول الفكري للحزب إلى قوة جماهيرية، فيما مثلت قيادة سلام عادل نموذجاً للصمود في مواجهة القمع، المتمسك بالثورية (التي عبدتها الرومانتيكية الفكرية وأحلام الخلاص من التمايز الطبقي والحلم بالحرية والتساوي والأخوة) . كما لعب الحزب دورًا في دعم سياسات العدالة الاجتماعية التي تبناها قاسم، مثل قانون الإصلاح الزراعي، مما عمّق تأثيره في تقليص الفجوة الطبقية.
• النازية والفكر القومي: تعكس الرواية تغلغل الأفكار القومية المتطرفة، بما فيها النزعات النازية، في أوساط الضباط ذوي النزعة القومية الذين شكّلوا منفذًا لتلك الأفكار. في الوقت ذاته، يُبرز السرد دور البروليتاريا الرثة، المتمثلة في كاسري الإضرابات، كمساهمين في تشكيل تيارات قومية متشددة، مثل حزب البعث. ومع ذلك، فإنَّ الرواية تتجنب الإشارة المباشرة إلى حزب البعث بقصدية واضحة، ربما لتأكيد غيابه الفعلي عن التأثير في تلك المرحلة الزمنية التي ركزت عليها الرواية، حيث لم يكن له دور يُذكر في سياق الأحداث. هذا التجاهل يبدو متعمداً ليبقى التركيز منصباً على القوى التي كانت فاعلة في تلك الفترة.
توثيق وإبداع
تتألف الرواية من أربعة فصول رئيسة وثلاثة تقارير تختم أحداثها، حيث توزعت على صفحات الرواية 208 عناوين فرعية، وحينما تعلم أنَّ الرواية بُنيت على مذكرات مفترضة وأوراق متخيلة كتبتها شخصيات عديدة، هذا الكم من العناوين، والأسماء العديدة، والمدن المتنوعة التي تتناثر على فصول الرواية، تُثير منذ البداية سؤالاً محورياً: كيف يمكن لرواية أن تجمع كل هذه العناصر المتشعبة؟ ما هو الخيط الذي يربط بينها ويمنحها وحدتها؟ وما هي القدرة السردية التي تُحوِّل هذا التشظي الظاهري إلى سياق مفهوم ومتماسك؟
الإجابة تكمن في قدرة الكاتب على بناء محور سردي مركزي، يكون بمثابة العمود الفقري الذي تستند إليه الرواية. المحور هو خط الصراع السياسي الاجتماعي، وانعكاسه كحدث تاريخي كبير يشكل نقطة انطلاق لكل الشخصيات والمدن، ويبرز شخصية الزعيم. من خلال هذا المحور، تُصبح العناوين والأسماء والمدن أدوات سردية تخدم الفكرة الكبرى.
التنسيق السردي هنا لا يعتمد فقط على جمع العناصر، بل على القدرة على دمجها في نسيج روائي مُحكم. كل عنوان أو شخصية أو مكان لا يظهر بشكل عشوائي، بل يؤدي وظيفة معينة، سواء كانت تسليط الضوء على جانب من القصة، أو تعميق فهم القارئ للزمان والمكان، أو إظهار التداخل بين العوالم المختلفة.
ما يجعل هذا التنوع قابلاً للفهم هو المنظور السردي الذي يقدمه الكاتب، والذي يعمل على ربط هذه العناصر، سواء كان ذلك من خلال مذكرات الشخصيات التي تُظهر تقاطعاتها، أو من خلال الأحداث التي تربط بين هذه المدن والأسماء، أو من خلال الأسلوب الأدبي الذي يوحد بين أجزاء النص. بهذا الأسلوب، تتحول الفوضى الظاهرية إلى سيمفونية متقنة، حيث تنسجم الأجزاء المتعددة في سياق روائي متماسك يمنح القارئ تجربة غنية ومليئة بالتحديات الفكرية.
قدم الروائي نموذجاً لافتاً في توظيف التاريخ غير الرسمي في رواية الزعيم. من خلال نبش الوثائق والكتب، أظهر قدرة فريدة على الوصول إلى خفايا الماضي، واكتساب معرفة عميقة بأحداث مغيبة عن السرد التاريخي السائد. هذا الجهد الكبير لم يكن مجرد بحث أكاديمي، بل تحول إلى إبداع أدبي استثنائي، حيث نجح في إعادة بناء التاريخ بعيون جديدة، تعكس أصواتاً مهمشة وحكايات غير مطروقة.
براعة علي بدر تكمن في قدرته على الدمج بين الواقع التاريخي والخيال الأدبي، مما أتاح له تقديم رؤية نقدية للتاريخ، تتجاوز السرد التقليدي إلى إعادة صياغته بلمسة إنسانية وإبداعية. عمله لا يقتصر على تسليط الضوء على الجوانب المجهولة من التاريخ، بل يسعى إلى إثارة تساؤلات عميقة حول السردية الرسمية ودورها في تشكيل الوعي الجمعي.
هذا التوجه يجعل من الرواية مرجعاً أدبياً غنياً، حيث ينجح في تحويل الوثائق إلى حياة نابضة، ويعيد تعريف العلاقة بين الرواية والتاريخ. مثل هذا الإبداع لا يقتصر على كشف الحقائق، بل يقدم تجربة فكرية وجمالية تحفز القارئ على إعادة النظر في موروثه التاريخي.
يُعرف الروائي علي بدر بتوظيفه ثقافته، واطلاعه العميق واهتمامه بالوثائق التاريخية والمخطوطات في رواياته، حيث يعتمد على ما تحتويه المكتبات الكبيرة الشخصيات من كتب فكرية ووثائق تاريخية. يُظهر ذلك براعته في استخدام تقنية (الميتاتاريخي) ، مما يجعل نصوصه تجمع بين الوثيقة والتخييل التاريخي.
في روايته “الزعيم خرائط وأسلحة”، يستند بدر إلى العديد من الوثائق المستمدة من الصحف الغربية، لدعم الأحداث والحقائق التاريخية. ورغم أنَّ الرواية تاريخية، إلا أنها صيغت بأسلوب روائي متين وغير معقد، مما يعكس قدرته على دمج الوثيقة بالتخييل السردي. هذا النهج يعكس شغف علي بدر بالبحث التاريخي، حيث يسعى إلى تقديم سرديات تمزج بين الحقائق التاريخية والخيال الأدبي، مما يضفي عمقاً وثراءً على أعماله الروائية.
البنية السردية للرواية
تتميز الرواية بتقنيات سردية دقيقة ورمزية عميقة، مما يجعلها عملاً أدبياً مركباً، يجمع بين التحليل الاجتماعي والنقد السياسي، وتعتمد على تعدد الأصوات، حيث يُقدّم كل صوت رؤية مختلفة للأحداث، مما يعكس تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي. شخصية عبد الكريم قاسم تظهر متأملة وهادئة، بينما يُجسد عبد السلام عارف الحماسة العاطفية، ويقدم حسين الرحال صوتاً فكرياً نقدياً. هذا التعدد يمنح الرواية عمقاً، خاصة عند تناول صراعات الضباط الأحرار وتباين أيديولوجياتهم. كذلك، توظف الرواية السرد الوثائقي باستخدام مذكرات خيالية ونصوص من الجرائد، مما يخلق مزيجًا بين الخيال والحقيقة، ليُشعر القارئ بأنه يقرأ وثيقة تاريخية حية، مما يدمج الخيال بالتاريخ ويُضفي مصداقية على العمل، ليشعر القارئ وكأنه يعيش وقائع حقيقية. التنقل الزمني بين الماضي والحاضر واسترجاع الأحداث يمنح الرواية بعداً ديناميكياً، حيث يكشف الخلفيات الاجتماعية والتاريخية للشخصيات. استخدم الكاتب الرمزية لإثراء السرد، حيث جاءت الخرائط كرمز للتخطيط العسكري والسياسي، مع إشارة إلى صراع القوى على إعادة تشكيل العراق. أما الأسلحة فقد تجاوزت كونها أدوات تغيير، لتصبح رمزاً للعنف الذي يهيمن على التاريخ العراقي، وتلميحا إلى استمرارية الصراع. استخدم لغة وصفية عميقة لرصد المعاناة الإنسانية، وأسلوباً صارماً لتصوير الأحداث العسكرية والانقلابات. الحوارات جاءت أشبه بمناظرات فكرية أكثر من كونها تفاعلات شخصية، مما دفع القارئ للتأمل في الصراعات الأيديولوجية المطروحة، التي عكست تناقضات الواقع.
تُعد الرواية قراءة نقدية وتحليلية لمراحل مفصلية من تاريخ العراق، هي تُجسد مسارًا متشابكًا بين حياة عبد الكريم قاسم والتاريخ العراقي الحديث، حيث يبدأ النص بولادة شخصية متواضعة في ظروف قاسية وينتهي بثورة تعيد تشكيل النظام السياسي والاجتماعي في العراق.
ليست هذه الرواية مجرد سرد لحياة قاسم، بل هي مرآة للتحولات الكبرى التي شهدها العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين، مع التركيز على قضايا الفقر والصراع الطبقي والطموح الوطني. وقد جمعت بين الرمزية العميقة والبنية السردية المتشابكة لتقديم رؤية شاملة للصراعات الفكرية والسياسية التي شكلت هوية البلاد.