محمد صابر عبيد
افتتحت العتبات النصيَّة مساراً جديداً في الدرس النقدي نقل العناية النقديّة بالنصّ إلى طبقات نقدية جديدة، أسهمت على نحو فعّال في تفكيك البنية النصيَّة والحصول على نتائج جمالية تعزّز قوة النص ومستوى تأثيره في منطقة التلقّي، ولعل نظرة تأمليَّة في تاريخيَّة النقد الأدبي ستكشف أنّ "جيرار جينيت" لم يكن حتماً هو أوّل من تحدّث عن العتبات النصيَّة في إطار مقاربة فعاليات التشكيل الخاصة ببناء النصوص الأدبيَّة، ولا سيّما عتبة العنوان التي تشكّل العمود الفقري للعتبات النصيَّة بوصفها العتبة الأكثر شهرة ووضوحاً وتأثيراً وحضوراً، إذ انتبه النقّاد العرب القدامى أكثر من انتباهة طريفة إلى أهمية هذه العتبة وقيمتها -لكن في مجال الكتابة النثريّة حصراً- حيث كانت القصيدة العربيّة بلا عنوان دائماً واحتاجت قرونا طويلة حتّى برزت الحاجة إلى أن تكون ذات عنونة.
نحسب أنّ ذلك مما يحتاج إلى مراجعة وتفكير ورصد وبحث وتأمّل وتدبّر ودراسة لمعرفة السبب الحقيقيّ والجوهريّ لهذه القضية، فهل كان النثر عندهم أكثر حاجة لنصّ موازٍ من الشعر؟ وهل كانوا يعتقدون أيضاً أنّ القصيدة مكتفية بذاتها وممتلئة بكينونتها التشكيلية (المتنيّة)، فلا تحتاج إلى ما يوازيها نصيّاً ليضيف إليها ويكشف عن جوهر وجودها؟، وثمة أسئلة أخرى كثيرة يمكن إنتاجها في هذا السبيل، وبالنظر المعمّق في عتبة العنوان الخاصة بالنصوص النثريَّة نجد أنّ كتّاب النثر العرب القدامى كانوا يعنون كثيراً بالصياغة التشكيليَّة للعنوان، ولا سيما في إيجاد بنية "سجعيّة" في تركيب عتبة العنوان تؤكّد عنايتهم البالغة بهذه القضية، بما يجعل من المقصد العنوانيّ وقدرته على التأثير في مجتمع التلقّي بطبقاته كلّها أمراً في غاية الأهمية، وله مردود عالٍ على مستوى التلقّي العنوانيّ يتبارى فيه كتّاب النثر الكبار؛ ممّن حقّق شهرة كبيرة في تلك الأوساط واحتلّ مراكز إداريّة مهمّة تتيح له التفنّن في هذه القضية.
كتاب جينيت الموسوم "عتبات" فضلاً عن كتبه الأخرى ذات الصلة فتحت أفقاً جديداً لرصد فضاء العتبات النصيّة وفاعليّة النص الموازي، إذ بدأت تتعالى الأصوات المتّجهة صوب هذا الميدان البحثيّ الخصب؛ وكأنَّ هذه الأصوات العالية كانت غافلة عنه حتى نبّهها "جينيت" وأثار شهوتها النقديَّة نحوها بهذه الكثافة والقوّة والعناية الكليّة، فقد انتشرت وتسرّبت وتكاثفت وتعاظمت وتكاثرت ولم يعد ثمة ما يوقفها، حتى أنّ الكتب والبحوث والدراسات التي طالت هذه المنطقة البحثيّة المثيرة بدت وكأنّها أكثر مما يجب، إذ غطّت أصداءُ الصوت العتباتي الجينيتي الأجواءَ والفضاءات والعقولَ والرغبات كلّها، على نحو بالغ التأثير والإغراء والتمثّل والصيرورة والأداء بما يجعل منها محوراً نقديّاً لا سبيل إلى التغافل عنه أو إهماله.
توصف "عتبة العنوان" على نحو خاص -من بين العتبات الأخرى- بأنّها تاج عتبات الكتابة ومركزها الأساس، وهي من دون أدنى شكّ العتبة الأظهر والأقوى والأكثر استفزازاً لمحرّكات القراءة وميكانيزماتها، ونالت النصيب الأوفر من الاهتمام والرصد والقراءة والتأليف إلى درجة الحديث عن "نظرية العنوان"، بكلّ ما تتكشّف عنه جمهوريّة النظرية من طبقات وحدود وإمكانات وقضايا وإشكالات ورؤيات ومنجزات، حتى ارتفعت هذه العتبة كثيراً أمام شهوة القراءة ولم يعد من السهل والميسور اجتيازها لكلّ عابر قرائيّ لا ينتمي إلى هذا الفضاء بقوّة، فقد نبّهت القرّاء إلى أهميتها وعلاقتها الوثيقة بالمتن النصّيّ؛ بما لا يمكن إنجاز قراءة متكاملة تغفل عن قراءة عتبة العنونة بأيِّ حال من الأحوال.
ظلّت الكتب التي تشتغل على عتبة العنوان تتكاثر وتترى وتتناسل، بعضها يكرَّر، وبعضها يضيف، وبعضها بين بين، حالها حال الكتب الأخرى في شتى صنوف المعرفة ومجالات العلم المختلفة، لكنّها على أيّة حال ضرورية في الأحوال كلّها، إذ إنّ التراكم المعرفي لأيّ علم هو الذي يؤسس لجمهوريته التي ترفع به علمها وتقدّم سلامها الجمهوريّ الخاصّ بها، وتكتسب من ثمّ أحقّية وجودها تحت شمس المعرفة المترامية الأطراف بكلّ شرعية واعتراف وحرية ورحابة، متجاوزة خوفها من أيّ ضعفٍ أو وَهَنٍ أو تراجع أو تلكؤ؛ يمكن أن يودي بها كي يسحب الاعتراف بها ويُفقِدها شرعيتها ويضعها على رفّ تاريخية المعرفة.
احتلّت المنهجيات الحديثة مساحات كثيرة وواسعة من العقل النقدي الحديث؛ وقد ركّزت الاهتمام على وجود العتبات تركيزاً بالغاً، حتى أنّ القارئ ليشعر أحياناً أنّ النص الموازي "العتباتي" صار على نحو ما أكثر أهمية من المتن النصيّ الأصل، وذلك في سياق استحواذ الهامش على المتن ضمن صياغة ثقافة هذا العقل في إعادة ترتيب أولوياته الرؤيويّة والمنهجيّة، إذ أُبعِد المتن قليلاً عن مجال الاهتمام والعناية النقديّة الفاعلة والمنتِجة؛ وسخّر كلّ شيء في خدمة الهامش وقد احتلّ الأرض والسماء معاً، على النحو الذي بدا فيه المتنُ مستعمرةً قديمةً بإزاء الجمهورية الجديدة الخاصّة بثورة العتبات، ومن لا يعترف بخصوصية هذه الجمهورية الجديدة الوافدة يعدّ قديماً؛ ينتمي إلى ثقافة المستعمرات بروحيتها التقليدية ورؤيتها القديمة التي يرى كثيرون أنّ الدهر قد أكل عليها وشرب وغادرها أيضاً.
وإذاً فالمتن النصّي بإزاء هذه الصورة الأحاديّة في سياسة التفكير النقديّ لا بدَّ من التوكيد على أنّ المتن النصيّ هو الأصل الكتابي المعوّل عليه في القراءة والتداول، وحين يأتي الاهتمام الضروري بالنص الموازي/ العتباتيّ فإنّه يأتي تعزيزاً له وتمكيناً لقيمته في احتواء التجربة والتعبير عنها وتشكيلها، كما أنّه يأتي في سياق حرارة الجذوة المتألقة بينهما؛ وهي تتمخّض عن قدرٍ عالٍ من التوازي والتوازن والتماثل والتفاعل والتداخل، ضمن فضاء خطاب نصّي لا يكتفي بذاته مهما بلغ من الخصب والثراء والعمق والغنى، بل ينفتح بكلّ طبقاته بين يدَي القراءة كي تتوفّر له شروط الحياة والديمومة والفعل والتأثير والإدهاش.