إعادة النظر في ثوريَّة الأدب

ثقافة 2025/01/13
...

  ياسين طه حافظ

لا أدري تماماً إلى أين يتجه الأدب، وماذا وراء هذا الكم من الكتابات، التي متميزها المختلف قليل والمتشابه منه كثير. فأهم خطر أو أبرز نقطة مؤاخذة وتساؤل، إن جل هذه الكتابات لا تبدو لأصحابها ولا تبدو لبلدها المنتج، ولا هي اضافة مهمة إلى أدب العالم. مع ذلك هناك كتابات تفرض الإعجاب بها وتهب كتابها اعتباراً. ونحن القرّاء نستريح لها وكأنها حاجة مرجأة.

لا أريد ترداد المقولات القديمة في مفهوم الأدب الثوري، لكني أدرك الحاجة لأن أجد روايات وأعمالا تمتلك أجواء الاستياء الشعبي ومعاناة العيش تحت الضنك والقمع أو الحياة المتخلفة وتسلّط الشرور والأخطاء، كما عن متاعب الأفراد في الحياة العائليّة والعزلة الفرديّة والشعور باللا جدوى أو جنون اللهاث وراء المزيد.

نعم.. قد نجد القليل بين الكثير يرضينا، لكن لا تكاد هذه تملك مزية شاخصة في الأجواء والمضامين. ولا تتمتع بروح الأدب أكثر من روح الخبر. 

في ظروف كهذه يكاد التقليد يكون سائداً في التقنيات ونادرة تلك الكتابات التي ابتدعت شكلها الخاص وابتدعت موضوعها. هي قليلة جداً. 

ليس هذا عيباً مشيناً، قدر ما هو ظاهرة وأنه واقع مستوى ثقافي يحاول التقدم على تماس بنتاج عالمي يستهوينا أو يثير إعجابنا. 

الفن هناك هو المتقدم. فإضافتنا الجيدة، والحال هذه، قليلة ناعمة للمحاكاة أثر واضح فيها أو في أكثرها. فكثير مما يصدر لنا، يصدر بطبعات قليلة لا تتجاوز الثلاثة آلاف في بعضها والألف نسخة في غالبها. وهو فقرٌ في القراءة واضح كما هو فقرٌ في الكتابة المتميزة واضح. لعلّ فضيلتنا من ذلك هو البعض الذي ينعش الأخبار الأدبيّة ويبعث الحيوية في عروض الكتب. الحمد لله أنّنا لم نفقد المائزات القليلة، ولكنّها تشرق مرة كل بضعة أعوام وتغيب.

من الملاحظات التي تستوقف من يستعرض المضمون العام للنشر الأدبي، أن الكتّاب يجدون نماذجهم أو بعضاً من شخصيات نماذجهم، مما يقرؤون ويجهد الكاتب في أن يعبر عن ذاته من خلالهم، وهذا أول الخلل في الكتابة. الواقع الفقير لا يمنح الكاتب نماذج ترضيه. وهنا، هنا، بداية الحاجة لتغيير الواقع الى واقع يرضينا حضارة وثقافة.

لكن النتيجة المتحققة حتى الآن، وبعد هذا العرض، إن المجتمع الحقيقي، مجتمع الكاتب ظل بلا تعبير عنه!

لست هنا بصدد الثقافات المقاومة، قدر ما أنا مهتم بالموضوع الثقافي المعبّر عن الإشكال الحياتي. الأدب الثوري لا ينتج من هكذا ثقافات. هذه ينتج منها، نوع من التحريض أو الهجاء السياسي العادي وهذا غير الأدب الثوري الجذري المغيّر وللذي يصنع تغييراً أو ثورة. أدبنا بترهله وفجواته وعدم اكتنازه وتشابهه، لا يمكن أن تتوافر فيه عوامل فاعلة لإحداث قدرة اجتماعية مغيرة. مكونات هذا الأدب، أسسه ليستْ بالحضور الكافي. ولا يبدو لي صالحا أو أهلاً لصناعة ائتلافات فوريّة واسعة لها قدرة صنع انتقال. هو أدب غير صالح لصناعة سجل ثوري، لا سيما هو بحاله تلك، يقع عاجزاً، أو هزيلاً أو بلا إرادة، أين؟ بين طرفين متقابلين ومتضادين للطيف الديمقراطي المتمنى والثوري البعيد. هو بين النظام الاحصائي والفردي والنظام الاستعماري وبفقر مضمونه الإنساني في زحام العالم والمجتمعات المنفتحة على الأفكار الجديدة والثوريّة أو المتمرّدة على الاعتيادي والمألوف. 

عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية- الذي اوجدته التابعية والاعتماد على "الرأس" الأنموذج- وهو ليس رأساً ولكن متمول مسلح وفريق مسلحين متسلطين على قطاعات يتذمرون، وراثياً ولأجيال، من الحرمان والوقوع تحت طوائل الفقر وانعدام الحماية والطموح المنكسر والحاجة للجاه والحضور. أحوال تدعو للمساومة ولمزيد من الخسران والخيبة والأدب الفجائعي. 

عن مضموننا الإنساني ونحن في زحام العالم واختلافه، نعم يمكن أن يكون انتماؤنا الى بيئة أو الى تنوع البيئات الإنسانية، فتكون موضوعاتنا من هذه كلها. ولكن المسألة أننا لم نزل في عزلة تقريباً ولم يكتمل انتماؤنا الحضاري والثقافي الى العالم بمفهومه العولمي. نحن ما نزال في الكثير من حياتنا في تجمعات بشرية تنتمي لمقرات، اسمها بلدان أو اوطان أو مناطق.. وهنا تصبح حاجة أن تكون لنا موضوعاتنا وربما، لحد كبير امتيازاتنا أو صفاتنا الأسلوبيَّة العامة. لغتنا، عدا عن الألفاظ والتراكيب، مختلفة عن لغة الامريكي أو الفرنسي. ثمة لمسات ثقافية متشابهة، جاءت عبر الترجمة أو المحاكاة، لكن روح العبارة مختلف وايحاءاتها في أحيان كثيرة تختلف. لنا ما لنا من بؤس وفي كتاباتهم ما نتلذذ به أو نرتاح له أو نجد فيه ريّاً، وكأنّنا محرومون من هكذا تعابير ودلالات.

لا تبدو القضية معزولة عن اختلافات أساسية في الواقع السياسي اليومي وطبيعة الحياة اليومية وتفاصيلها ومفردات العيش وفسحة التمتع بالحياة. نحن عموماً، حتى ونحن كتاب ومبدعون، كادحون ضمناً ونفكر بسد احتياج. لذلك أرى ثقافات متخلفة كهذه، غير مكتملة الانسجام، تظل ثقافات قاصرة عن إبداع صعب، إبداع ثوري، معبّر ومغيّر، ويقنع.

إنَّ افتقاد الرصانة الثقافيّة والقناعة مقابل اللهو أو الزهو بالشتات الثقافي غير المتماسك يسبب افتقاداً عميقاً للرؤية الخاصة. اتساع هذا التشتّت وعدم استقراره، لا يمكن أن تمتلك طاقة صنع مجتمع جديد أو تحقيق انتقال تاريخي. الانتقال من مرحلة الى أخرى يحتاج الى طاقات تجديديَّة متآلفة لا نثار قدرات، لا مجتزآت من طاقات أخرى. الشتات لا يصنع تصوراً متماسكاً. وهذا الحال في الأدب العام، على سعته، لم يحقق حتى الآن نتائج واضحة، دعونا من الادعاءات، لكن حركاتٍ متماسكة التصورات ومتنوعة، متآلفة الأفكار والمستوى، حققت نتائج باهرة حتى الان، الانثويّة لحدٍّ ما وبعض حركات التحرير والاتفاقات ضد العنصرية والدفاع عن حقوق الانسان. نعم لم يكتمل كل شيء ولكن هناك فعلاً واضحاً ونتائج واضحة على خلاف فعل الأدب، وهو الأوسع الأعم، الذي لم يتضح فعله الثوري في أيّ من الأزمات التي تحاصرنا أو حاصرتنا من قبل. مع تقديري للفارق في الأهمية والسعة، لكن ما يقال من أنّ الأدب صنع ثورة، يظل قولاً يدعو إلى التأكد من ثبات حقيقته.