علي حمود الحسن
ذوت موهبة المئات من الفنانين العراقيين، الذين توزعوا في المنافي، عدا قلة، بعد أن تركوا خلفهم فناً عراقياً أصيلاً في المسرح والموسيقى والسينما والتشكيل، حملوا أحلامهم زوادة لأيام المنافي الباردة، في حاضنة ليست حاضنتهم ولسان غير لسانهم، فانطفأت جذوة الإبداع ولفتهم الحياة باستحقاقاتها الصارمة، مات الكثير منهم بحكم العمر، وفرح الباقون بانهيار نظام الدكتاتور، لكن حسابات الحقل ليست دائماً مثل حسابات البيدر، فنكصوا تتناهبهم الحسرة على وطن في مهب الريح، واحد من هؤلاء المخرج السينمائي عبد الهادي الراوي، الذي رحل عن عالمنا، مؤخرا عن عمر ناهز الـ (86)عاماً، صاحب فيلم "افترض نفسك سعيداً" المولود في راوة عام 1938، أنهى دراسته الأولية في العراق، ثم أكمل دراسة السينما في موسكو، فحصل على الماجستير في العام 1968، وخلال مدة دراسته أخرج ثلاثة أفلام روائية قصيرة، هي : "حلم ليلة صيف"، و" الإنسان ذو السكاكين"، و"قصة عن العنف"، وفيلم وثائقي قصير بعنوان "الأطفال والنواعير".
عاد الراوي إلى العراق، فأخرج أكثر من 20 فيلماً وثائقياً، منها: "بحيرة الرزازة"، و"قصب سكر ميسان"، و" محو الأمية"، و "المرأة والمزارع الجماعية"، و"أزياء"، و"فلسطين ماذا قدمت لها"، و "بسكاديرا"، و "جيبوتي"، وفيلم "العاشقون للحياة" وغيرها، فضلاً عن إخراجه أفلاماً روائية قصيرة وطويلة، أبرزها: "الكابوس"، و "البيت"، و"افترض نفسك سعيداً"، و "حب في بغداد"، و"المنفذون".
غادر الراوي العراق في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعد تعرضه لموقف محرج جداً، إذ أخبره الشاعر يوسف الصائغ، وكان وقتها مديراً للسينما والمسرح: "أن اختيار القيادة وقع عليك لإخراج فيلم عن "السيد القائد"، وعليك مقابلة الوزير للتداول في التفاصيل". وأضاف عبد الهادي الراوي في مقالة كتبها في موقع "كتابات": "وقع عليّ الخبر كالصاعقة، وسرت بلا وعي في الشوارع، فماذا أقول للوزير، ربما أستطيع الحديث مع الصائغ، فهو يكره صدام ونظامه، لكن كيف لي إقناع الوزير بالعدول عن ذلك.. إلا أن الأمور سارت بطريقة أقرب إلى المعجزة، إذ استطعت الخروج من العراق، ثم وصلت إلى هولندا، واختاروا زميلاً لي لإخراج الفيلم، ففعل ذلك وحصل على المكرمات المعروفة والامتيازات".
وفي واحدة من المفارقات السريالية، التي لا تحصل، إلا في بلد ألف ليلة وليلة، سقط صدام ونظامه المتهرئ عام2003، فانتعشت آمال الراوي بالعودة إلى بلده، والمشاركة في بنائه من خلال كاميرته، ليتفاجأ باحتراق "اضبارته"، وعندما استفسر من المعنيين، جاءه الجواب صاعقاً احترقت فقط أضابير المفصولين السياسيين، في واحدة من أسوأ تمظهرات تاريخ مكر التاريخ.