{شراشيب}.. حكاية رسمتها {اللقطات الكبيرة}

ثقافة 2025/01/13
...

  د. سالم شدهان


حينما تضع كلمة أو جملة ما بين هلالين، هذا يعني أنك تخصصّ وتركّز وتجتزئ من الكل، ما تعدّه زبدة تطلب من القارئ تذوقها والتعمن فيها، وممكن أن تكون تفسيرا، أو شيئا أشبه بالسهل الممتنع احيانا. وبلغة السينما هي "لقطة كبيرة"، اقتضت الضرورة أن تكون هكذا. وفي الفيلم السينمائي، تؤسس اللقطة الكبيرة لنفسها مكانة متفرّدة، تقود من خلالها عملية التلقي، باعتبارها مشكلة، أو تكون حلّا، أو كشفا عن المضمر، أو صفعة، أو مكافأة.. وأضعف مهمة لها، هي عقد صلة قربى وصداقة ما بين الصورة والمتلقّي. بافتراض أنها لقطة كبيرة أتت في مشاهد متتالية من فيلم ما. أمّا اذا كانت هذه اللقطة تمثّل غالبية متن الفيلم وسياقه، وسرده الصوري المتعاقب، فهذا يعني إنّ هناك قصدية وضرورة قصوى لهذا الاشتغال الجمالي ..اذ يبدأ "شراشيب" للمخرج علي الكعبي، بأربع لقطات" كبيرة" و"كبيرة جدا"، وينتهي بمثلها تقريبا، وبذا  يحق لنا أن نسمع مطرقة القاضي العادلة، تصرخ بوجه التشويش وتدعو الجميع الى الصمت والانتباه،  فالمسألة تحتاج الى تركيز وحينها يمكنه أن يصدر حكما، ويمكن أن تكون تنبيها في البدء وحكما في النهاية، كذلك فإن رسالة الفيلم الذي كتبت له السيناريو زينب العسكري، اقتضت أن تكون بين هلالين، و"اللقطات الكبيرة"، هي التي مثّلت الهلالين وما بينهما؛ سرد يكشف معنى ودلالة وسبب هذا الاشتغال السردي المتميّز، من خلال حكاية لا تتعدى كونها اشارة توضّح ضرورة الانتباه الى قضيّة كبيرة، اصبحت تمثّل همّا كبيرا في جميع المجتمعات العالمية، وهي الإدمان على المخدرات وآثارها المدمّرة، التي كانت تتجسّد ليس بسرد الحكاية فقط،  بل من خلال  التحذيرات المرمّزة، أو من تلك الأفعال التي كانت توجّه التنبيه المتكرر، إلى المتلقّي الذي تشدّه حكاية رسمتها "اللقطات الكبيرة"، التي بدأ بها الفيلم وانتهى، كذلك من الاجواء التي صنعتها المؤثّرات الصوتية، التي كانت تخرج من الفتاة كلهاث امرأة في الفراش، لكنّها في الحقيقة ألم ما بعد اللذة، التي ممكن أن تكون اشتياقا، أو لهفة  لشيء اسمه المخدّرات، كذلك من الاجزاء السردية القصدية، التي وزّعها الفيلم بين نفسه، منذ أول لقطة إلى آخر لقطة في موضوع مركّز،  كشف فيه عن  صراع خفي مرة، ومعلن مرة اخرى، كما تمثّل بحركة من الممثّلة التي تضرب على فراشها بكلتا يديها، أو من الدمية التي تحتضنها ثم تضعها بمكانها على وسادتها، أو من حكاية الرسّام الذي يرسم لوحة، هو بطلها برفقة الفتاة بملابس العرس وبألوان ابتسامتها، أو حتّى بجمعها لمفرداتها الحياتية المحبّبة، مثل الصور وحلقة الزواج وبدلة العرس وتدفنها في القبر الذي حفرته بيدها، في ساحة مركز التأهيل، تلك البناية التي تمتلئ بالشبابيك المضيئة، وعودتها من نفس الطريق، الذي مرّت أمام الرسام، الذي لا تظهر منه سوى يده، وهو يرسم الأجزاء الأولى من اللوحة، ثم تعود برفقة المعالجين والصورة قد اكتملت، وينتهي بها الفيلم بلقطة كبيرة للصورة.  الفيلم اجتزأ هذه الفكرة وحاول بناء حكاية تمثّل ضرورة يحتاجها المتلقّي كي يواصل عملية التلقي، فالشكل وجماله وتأكيدات المنظّرين، على أنه   المعبّر عن المضمون، أو هو يصنعه لا يمكنها أن تكون هي المغزى دائما، خاصة في هذا الفيلم الذي لم تكن فيه باقي العناصر الشكلية ذات اشتغال منفرد، بل كانت تعبّر عن جزء من الفعل، وهذه الاجزاء هي التي تبني الفيلم ككل، وما حركة الكاميرا وحركة الممثّلة وأفعالها المحسوبة بدقّة، إلا سرد متتالي يسير بالموضوع الى نهاية الحكاية، التي احتضنت موضوعا حيويا تناوله الفيلم بطريقة رشيقة، اعتمدت على "اللقطة الكبيرة "وعلى المؤثّر والحكاية الشعبية، وهذا اسهم في الاداء الراكز للمثلة، مضافا إليه الحس المرهف للمخرج، الذي لم ينجرف خلف الزمن، ليأخذه الى مديات زمنية أكثر، لكنه استطاع أن يقتنص الاجزاء الضرورية جدا، تلك التي تناغي المشاعر، كي تجعل المتلقي قريب من الموضوع  ويتماهى مع المشكلة، وجزء من الحل.  ايضا

النص في هذا الفيلم، لا يعدو كونه تفاصيل اخراجية، وهو نص مكتوب باللقطات والإدارة الفنّية، وبعض الإكسسوارات الضرورية، ومكان لعبت   الشبابيك المضيئة دورا كبيرا، منذ المشهد الاول في الغرفة، اذ اختار المخرج مكانا مؤثّرا للفتاة، التي غالبا ما تجلس بجانب الشباب، ثم المشهد الاخير، حينما تبدأ بدفن حقيبة الحياة وبناية (مركز تأهيل مدمني ومتعاطي المخدّرات..) تلك التي تمتلئ بالشبابيك المضيئة بحكاية لا يعنيني سردها، بل يعنيني المشكلة والأزمة التي عاشتها الفتاة، التي تخلّت عن ثوب عرسها، لكنّها بقيت تعيش أمل الضوء، وحكايتنا كانت لقطات كبيرة وضوءا.. وإدمانا.، اخيرا الفيلم منذ بدايته حتى نهايته بين هلالين، والمتبقي هي الحياة ما فوقها وما دونها.