قصة قصيرة دجاجة

ثقافة 2025/01/14
...

  وارد بدر السالم


منذ ستة أشهر لم تتخلّف هذه العجوز عن زيارة السجن المركزي في يوم النساء. توقيت شهري يرنُّ في رأسها ولا يتخلّف. وساعة صباحيّة لا تتأخر فيها أبداً، لتكون أول زائرة للسجن. تعلّق على ظهرها صُرّة سوداء صغيرة، وتسير بصعوبة. تتوكأ على عصا وهميَّة. وتسحلُ برجليها سحلاً عندما تدخل فضاء السجن بمواجهة الاستعلامات التي يكون فيها عدد من الضباط والمنتسبين في الوجبة الصباحيَّة لتفتيش الزائرات وما يحملنه من أغراض خفيفة.

قبل الجلوس على مصطبة الانتظار أسارع اليها بشعور الابن الذي يسند والدته قبل أن تسقط في المكان. تُبسمل بصوتٍ مسموعٍ وتصلي على النبي صلوات كثيرة لا تنقطع. وعيناها الكليلتان لا تنظران الى أحد، حتى يأتي دورها المبكر لترى ابنها الأربعيني لمدة خمس عشرة دقيقة لا أكثر. لكن أحياناً يُزيد الحراس بعض الدقائق لها وهي تحضن ولدها وتودعه على أمل أن تلتقيه بعد شهر.

قال أحد الحراس من الذين كانوا معي في وجبة الحراسة الصباحيَّة:

"الآن الساعة السادسة بالضبط".

" لا بدَّ أنَّ العجوز وصلت".

أعرف ميقاتها الصباحي في مثل هذا الموعد الشهري. ساعة متحركة في تمامها وضبطها. تعلق على ظهرها المقوس صرّة سوداء صغيرة فيها بعض المأكولات كما في كل مرة: بيض مسلوق. أقراص خبز. جبن محلي مضفور. عبوات كوكا كولا ومياه. لكن هذه المرة كانت تحمل دجاجة بيضاء حيَّة، مربوطة بحبل على عنقها المجعّد. فاستقرّت على صدرها كوليد مقمّط ونائم عكس فراشه.

تمتمت العجوز للحراس:

"ما لحقت أطبخها. هي له ولكم أيضاً. كلوا معه فإنّه ابنٌ طيب وكريم".

وضعنا الدجاجة تحت جهاز السونار وسحبها الشريط الناقل الى الجهة الأخرى، واستقرت في حاضنة بلاستيكية. ولم تتحرك أو تقفز، كأنّها مدرّبة على أن تكون في وضع متخاذل.

كلمها النقيب سرحان:

"يا حاجّة.. ممنوع دخول مثل هذه الأمور إلى السجن".

تكلمت وهي تغطي فمها بإحدى يديها:

"إنها دجاجته الوحيدة".

كانت تتكلم بصعوبة:

"سألني عنها أكثر من مرة.. ربّاها وهي صغيرة.."

واصلت بالصعوبة ذاتها:

"لم يرها وهي كبيرة كما هي الآن".

كنا ننظر الى وجهها المتعب:

"في الشهر الماضي أخبرته بأن دجاجته مريضة وقد تموت.. فأوصاني بطبخها قبل أن تموت".

سكتت. كانت تلهث وهي تشرح:

"الدجاجة كما تراها الآن. خفّ مرضها قليلاً.. ولم أطبخها..".

كان النقيب يسمح لها بأيّ كلام تودُّ إضافته. وكنت أنظر اليها بألم:

".. وحدي في البيت.. الكنّة غادرتنا منذ وقت طويل.. والولد عندكم".

كان الضابط ينظر لها بإشفاق. وجهها متجعّد كثيراً. عيناها ذابلتان، تغطي رأسها بعمامة سوداء لفّتها أكثر من مرة.

"على مسؤوليتي سندخلها..".

شكرته بإشارة من يدها:

"إنها دجاجة يا ابني.. اذبحوها قبل أن تموت.. كُلوها أنتم معه".

عجائز كثيرات يصلن بعدها. يدخلن الى ساحة السجن المتواري بين الأبنية بالتتابع. ليس أكثر من خمس عشرة دقيقة لكل عجوز. ولقلة الزائرات الى جناح الإعدام في السجن، يمكن لحرّاسه السيطرة والتنظيم السلس. فالنساء أكثر التزاماً بقانون السجن ولا يسببن فوضى كثيرة، بالرغم من أنهن أمهات وجدّات مفجوعات بما ينتظر أبناءهنّ من نهايات حزينة دائماً.

لم يقل النقيب شيئاً سوى أن أفسح لها مجالاً لتمر الى الساحة المقابلة للعنبر رقم 13 فسارت قدماها على عكازة وهميَّة وصرّتها على ظهرها، والدجاجة معلّقة برقبتها كتعويذة بيضاء، وهي تتمتم وتصلي على الرسول.  

سألني النقيب:

" ألم تخبرها ؟"

"لا"

كان ينظر لي وكنت أنظر اليه.

"كان عليك أن تخبرها"

"لم أستطع.. شعرتُ بالعجز"

"أنت مكلّف بهذا".

"قد يكون تقصيراً مني"

اعتصرني الألم وأنا أبرر للنقيب:

"سترجع بعد دقائق هي ودجاجتها.. سيقولون لها في العنبر..".

أشعل النقيب سيجارة وامتصَّ رحيقها بقوة.

كان في عينيه أسى يمكن لي أن ألمحه بسهولة وهو ينفخ الدخان، كأنّه يزفر وجعاً محبوساً في داخله. ولعلي أتفهم هذا الارتباك الذي هو فيه، مثل ما هو بي. لكننا، أنا وهو، ننتظر العجوز ودجاجتها البيضاء، ونحن ننظر الى عجائز العنبر رقم 13 بصعوبة. يجرجرن أرجلهنّ بيأس. والصرر السود فوق ظهورهنّ. وبقي النقيب المكلف بالوقت ينظر الى الساعة في معصمه بين فترة وأخرى. قبل أن يوعز لي أن أطلق صافرة الانتهاء من الزيارة.

انتهت الخمس عشرة دقيقة.

"ساعد العجوز على المشي. أعتقد بأنّها لا تقدر أن تصل الى الباب الخارجي".

خرجت العباءات السود من دون صرر سود. وخرجت معهنّ دجاجةٌ بيضاء تقوقي وتصيح بطريقة لافتة للأنظار، كما لو أنها تصرخ.


• من كتاب (عشوائيات حي النمل)