المواجهة الأنثويَّة
رعد كريم عزيز
في مغامرة سردية تعمد انعام بيوض في روايتها "هُوّاريّة" إلى رفع راية الحرية إزاء ممناعة عتيقة تتمسك بالماضي أو ما نسميه أدوات الماضي المتوارثة من دون نقاش، فتبدأ في فرش قماشة سرديتها ضمن الغموض الأول المشوش للرئاسة الروائية لهوّاريّة وهي في المستشفى وقبلها اعطتنا مقدمة في وصف الكف وأثره وتأثيره باعتباره بصمة مدينة (كانت ولم تزل ص1) ووضعتنا إزاء عالم غامض وشعور بالحس الذي يفضي إلى الروحاني كي يتجاوز أسيجة الواقع الشائكة.
والقارئ لا يستطيع ترك "هوّاريّة" وهي في محنتها السردية، لأنها تتملك الحيازة الكاملة لمشاعرك، لأنه يصبح ملك سردها الساحر الحياتي والمبهر والذي يعبر بك إلى دواخل الواقع الذي تعيشه أنت والروائية بكل خوف وارتجاف وحب اكتشاف لواقع متعاكس بين مجاميع تضع القلنسوة على رأسها حتى لا يبان من الوجه شيء وكأنهم مسوخ متشابهون يبيحون القتل وقطع الرؤوس بدم بارد.
المكان المزدحم في مكان فقير شعبي في وهران الجزائرية، في حوش مشترك، ومن ثم تذهب الروائية إلى مكان ضيق مكون من غرف في سكن مشترك لتكشف بضياء السرد الاشارة إلى مكان الرواية السردي/ المركب والمتداخل مع بعضه في زحمة اجتماعية يختلط فيها الجنس والدين والتطلع إلى اثبات الذات والحلم بالسفر أو حتى امتلاك لغة تمثل الهوية دون اختلاط بين اللغات واللهجات المتنوعة بين العربية والفرنسية.
وتعتمد الرواية على تعدد الأصوات حيث يتناوب الراوي العليم والراوي المتكلم، وكل الشخصيات لها حرية كاملة في البوح، لتظهر لنا التناقض الحالي بين حياة موصولة بالأسئلة والبحث إزاء حرية الوجود المتمثلة بشخصية "هوارية" وبين الجماعات المتسلحة بالخطاب الديني وموانعه التي لا تتناسب مع عاصفة البحث عن الذات.
وتغامر بيوض باستخدام اللهجة الشعبية الجزائرية ولولا الترجمة بالفصيح في هوامش الرواية، لما استوعب القارئ العربي الكثير من المقاصد والمعاني، خاصة أن اللهجة الجزائرية غير منتشرة مثل غيرها، وهو ما فعله أيضا الروائي غائب طعمة فرمان في روايته الشهيرة "النخلة والجيران".
اصرار بيوض على استخدام اللهجة العامية كي تكون قريبة من الجو الجزائري/ العائلي المتناقض/ والعيش اليومي/ إلا أنها ادركت الحاجة للتوصيل الكامل فلجأت لكتابة الحوار في الهوامش باللغة الفصحى. وحسنا فعلت.
في الرواية بحث عن التباس الهوية والتأسيس لوجود المستشفى في كناية لمحاربة الاوبئة باشتراك الجميع على اختلاف اجناسهم وانتماءاتهم، ومن يملك المعرفة مثل هاجر فانه مهدد بالنسيان او الزوال وهي سحرت "هوارية" في المستشفى فبقيت تبحث عنها.
أغلب الشخصيات رسمت برشاقة تحف بها الغرابة والادهاش حيث يعيشون بملامح مثيرة ويجهدون برسم شخصياتهم بأنفسهم وسط كفاح مرير وهم خارجون من قاع المدينة بكل شظف عيشها وقسوتها، وهذا احد أسباب الاعتماد على الحوار المحلي الشعبي الذي يشكل الهوية الصارخة للشخصيات.
وحتى المكان الضيق المكون من غرف في سكن مشترك، يشير إلى مكان الرواية السردي/ المركب والمتداخل مع بعضه في زحمة اجتماعية يختلط فيها الجنس والدين والتطلع إلى اثبات الذات والحلم بالسفر او حتى امتلاك لغة تمثل الهوية دون اختلاط بين اللغات واللهجات المتنوعة بين العربية والفرنسية.
الرواية صنعت بموتيفات خالصة يمكن قراءتها لوحدها بمتعة المقدمة والتفاصيل وحكمة النهاية، وحتى لو كانت نهاية مفتوحة على الرغم من اتصال جميع السرد ببعضه البعض في نسيج تصعد ابرته إلى الأعلى في ضياء الاكتشاف أو تنغرز في قماشة الواقع الذي مزقه التعصب والفقر، ومما ساعد فنيا على الاتصال بين الفصول والانفصال في نفس الوقت توزع الضمائر الحاكية بين البوح الذاتي أو السارد العليم، ولكل شخصية استقلالها العالي في كشف بواطنها الغامضة ورؤيتها عن عالمها الخاص وعلاقاتها مع الآخرين. فإن تأخرت علينا "هوارية" ونحن نلاحق هدية وهاشمي الطبيب والعلاقات الحميمة بينهما فإن شخصية "هواري" تذكرنا بأخته فتتكئ الرواية على الحضور المجتمعي لبقاء اعمدتها السردية راسخة لتعطينا مشهد رحبتها، والضياء المحيط به حتى نبقى في الجو السردي العام لكل الشخصيات وبنفس القوة الفردية لكل شخصية.
العديد من الشخصيات والإشارات إلى حياتهم العريضة المليئة بالحركة والإدهاش والغرابة عاملتها انعام بيضي بالتشذيب الشديد والاقتصاد المكتنز، تفاديا للإفاضة والتطويل ولو أن روائيا آخراً كانت لديه هذه الفرشة الكبيرة لكتب رواية بفصول مطولة وبطريقة كلاسيكية (سيما إذا فكر في الاستفادة منها في السينما) وهذا التشذيب المقتصد اضاف لمعانا باهرا، واحتداما بين المصائر المتداخلة وهي سمة من سمات الرواية المعاصرة التي تعتمد على الاستفادة من الشعر في غموضه واستعاراته، والبوح لدرجة الكشف عن المستور في التابو ونفحات التكوين الاجتماعي البشري، إضافة إلى الانحياز للحرية ازاء الخطابات القديمة التي تبيح العدم بلا سؤال قانوني، وهو موضوع خصب تعاني منه الجزائر بصورة كبيرة.
كل الشخصيات من هوارية، والأخ هواري وأمه والأب الحمال والعائلة الأخرى المكونة من هشام والأخ الروجي الذي هو هاني صاحب الشعر الأحمر الذي يذهب إلى مزرعة تاجر المواشي وابنة تاجر المواشي التي تدرس الأثر الديني وتصبح صديقة هوارية والدكتور هاشمي الغامض الذي يعشق هدية زوجة هواري الذي يصبح واشياً للسلطة والخياطة وكارنو ابن صاحب الحانة كل هذه الشخصيات وغيرها، ممكن أن تصبح رواية بسعة أكبر وبصفحات كلاسيكية تداعب رغبات القارئ العادي، إلا أن أنعام بيوض تميل إلى الحداثة ورشاقتها وتعمد إلى خلط الأوراق والحيوات والشخصيات بخيال القرابة المكانية والصدفة في مكان صغير لحياة كبيرة فوقعت الرواية في 222 صفحة، ولكن لا القارئ العادي ولا الناقد يتمكن من أن يعيد الحكاية بسرد الاستذكار نظرا للتداخل والتقاطع والسيناريو اللاهث خلف الادهاش يعطي المجال الكافي للمتابعة، دون أن يرجع من جديد للسرد حتى يتذكر ويتماشى، مع ما تفعله الروائية في تقليب الأحداث واسترجاع ذاكرة "هوارية" بطلة التذكر والنسيان، الحب والفقدان، الحرية العلمانية وقراءة الكف الصوفية- وهي حيلة روائية- تعني معرفة ما يفعله الواقع بمستقبل الأفراد.
ما نهتم به في الفن الروائي الحديث طريقة التوصيل والانتساب إلى الحداثة دون أن نفقد خيط السرد الممتع الذي يعرفنا بواقع مثل الجزائر وأسباب تمزق الشخصيات وضياعها وتشتتها وتقاطعها مع الهجمة الشرسة لظلام غير مفهوم، ويمكن أن يهاجم الحرية بسرعة دون أن تستطيع الحياة مواجهته لكي تبقى على قيد النقاش، لأنه يواجه الحرير بالنار والأحلام بالسكين.
في "هوارية" تمكنت أنعام بيوض من أن تثبت أن الأدب الإنساني لا يفرق بين الذكوري والأنثوي في الإبداع، شعورا وانجازا وحداثة تدهش القارئ المتعطش لكينونة غائبة، هي جل أفكاره في القراءة الهادفة للتمسك بوجوده الإنساني بعيدا عن العدمية وسوادها.