الفنّ وأسئلة الحداثة

ثقافة 2025/01/15
...

 خضير الزيدي 


لا يمكن الإشارة إلى الفن العراقي وقيمته، إلا وفترة ستينيات القرن المنصرم حاضرة في وعينا. وإذا كانت تلك المرحلة مفعمة بالخطابات، والتوجهات، وظهور مناهج فلسفية وفكرية. فإن الفن التشكيلي لم يكن بالبعيد عن رياح التغيير التي أصابت ما حل في الوطن العربي من متغيرات وكان سؤال الحداثة وتأثيرها أكثر شأنا في التداول اليومي بين الشعراء والروائيين والفنانين. وقد استفاد الفنانون من الاحتكاك المباشر بالغرب عبر رحلاتهم الاكاديمية لدول مثل "فرنسا وايطاليا والصين" فما تعلموه من مساحة حوار ثقافي عمّق لهم أهمية الطرق الأسلوبية وحفّز وعيهم باتجاه المناخ التحديثي، وأظهر لنا نفر منهم الاستعداد لقبول خطاب الحداثة وكان جل ما يدور في مخيلتهم ووجدانهم مسألة الهوية طالما كان سعيهم يشتد في لحظة لا تبدو فيها نزعة الصراع متكافئة من دون فهم تراث بلدانهم، فهل عليهم المواجهة وسط موجة تغيير وتباشير بالتجديد أم عليهم الركون والاستيطان تحت قوقعة ذاكرة ووجدان تاريخ الأمكنة التي قدموا منها؟ 

لقد انتج الجيل الستيني وقبله الخمسيني معالم فن يحث الخطى نحو مفاهيم الحداثة سواء عبر المعارض الشخصية أو البيانات المشتركة وحتى الاصدارات، مثل مجلة الفكر الحديث للفنان جميل حمودي، ولا غرابة أن نقرأ في سيرة الفنان شاكر حسن آل سعيد بأن معرضه الأول كان في العام 1954، وهي السنوات التي انطلقت منها تصورات تدعو لبيان قيمة الأسلوب الفني وما هذه الفترة وما تلاها إلا وملف الحداثة يدور في فلكها، ولكن ما الاسئلة التي تم طرحها أمام سمات التحديث الفني؟ 

كان موضوع الابتكار الفني وتحديد الأسلوب من هواجس الغالب من فناني ذلك الجيل، وكانت فكرة العودة إلى الأصول تهيمن على عقلية الغالب منهم، إذ كيف يمكن لفن حديث أن يقام في أرض لها تاريخ من السنوات التي تمتد لمئات السنين، وما أوجه الشبه بين حداثة الفن الأوروبي وتاريخ الفن العراقي القديم، وماذا عن القطيعة مع الأصول؟ لقد فهم نفر من الفنانين إنهم  في محنة واختبار فأما أن يمضي مع رياح الحداثة التي عاشوها وأبصروا جمال منتجاتها كما حدث في رحلاتهم لأوروبا أو التقوقع في مسألة التراث والهوية، ولكن حسنا فعل قسم منهم بأن زاوج بين الاثنين ليكون ارتكازه متأتيا من ضمن الاهتمام بالعقائد ونتائج خطاب المعرفة، كما حدث في موضوع العودة إلى الواسطي وفهم رسوماته أو ما حدث مع جميل حمودي في استلهام الحرف وخصائص تيار الحروفيات،  وحتى تراجعه  جراء اعتماده على بداهات استشراقية جاهزة، مثلما يسميها أسعد عرابي على عكس ما يراه ضياء العزاوي بقوله (إن تجربة استلهام الحرف العربي تشير إلى نوع من الحفريات في العناصر والدلالة) وأيضا علينا التذكير بالتوجه إلى الأفكار الصوفية في رسومات شاكر حسن كلها كانت نماذج حية ولدت مع فهم أولئك الفنانين في مواجهة اسئلة الحداثة، فالفنان مهما تأثر بموجتها كان عليه العودة إلى المحيط وإعطائه حيزاً من التفكير في بث موضوعاته الفنية، وإذا كانت تيارات المعاصرة تجرف الثقافات الهشة لمجتمعات لا تمتلك حضارة ورحلة بحث لتراثها، فأنها في ذات الوقت أثرت في نفسية الكثير من الفنانين المنتمين لتاريخ ومكان عريق، كما حدث مع أقطاب الجيل الستيني العراقي بحيث ارتمى في حضن موجة الحداثة الغربية. واعتقد أن الأجيال السبعينية والثمانينية كانت الأكثر تأثيراً بالفن الغربي  مع أن قسماً من النقاد يشيرون وبكل ثقة بأن مرجعيات الفن العراقي هي في الأصل غربية، ولا أبوة للفن من دون العودة لذلك التأثير الباطني والظاهري منه.. ولكن لنتساءل هنا هل مفهوم الحداثة وقوة  انعكاسها تفعل كل ذلك؟ وأين وجدان الفنان مما يحيطه من اشكاليات وهواجس، وما دور مخيلته واختصاصه وأسلوبه المتفرد؟ لقد بدت بعد كل هذه السنوات أن الحداثة تترك فجوتها أمام أعيننا حينما ننظر لأبواب محمد غني حكمت وما حملته من سمات محلية أو ما تأثر به من الفن العراقي القديم ومنه الفن الإسلامي. يبدو المتابع للفن أن انصهار الحداثة وإرادة المعاصرة والعودة للتراث واستعارة التاريخ القديم قد تعيد لأذهاننا مكانة الفنان العراقي بما له من القدرة في اسقاط خطاب الموجة الجديدة وخلق موجة فن تليق به، طالما لم تجرفه الحداثة عن معالم فنه القديم.