جمال العتابي
لم يكن بميسور أبناء الريف التعلّم والدراسة، من النادر أن ينال الأولاد فرصتهم في معرفة أبجديات اللغة في المدرسة، المحظوظ فيهم من يتعلّم قراءة القرآن بطريقة ملّائيَّة تدعى "التزبير" تعتمد تهجّي الكلمة على يد بعض الشيوخ ورجال الدين الذين نالوا هذا الامتياز بجهودهم الذاتية، كان الشيخ حيدر عمّ الصبي "حسن" أحد هؤلاء الذين لهم الفضل في رعاية ابن أخيه، علّمه مبادئ القراءة والكتابة بعد أن وجد فيه شوقًا للمعرفة لا يمتلكه أقرانه.
لم يتأكّد لنا تاريخ ولادة حسن علي، فلا إشارة تذكر حول ذلك سوى ما يتناقله الآباء أنه ولد قبل (سنة لوعة 1927) بعامين، لكن الثابت في الأخبار أنها تتحدث عن إصابة الطفل بمرض الجدري فترك بثورًا على وجهه وظل على قيد الحياة.
كان الجوع يضرس تلك الأرض الجنوبيَّة، ملأى بحلفا الأحزان، يكثر البائسون فيها، والتراتيل تنشج عبر نايات متخشّبة. قرى بيوتها من طين، لو تطلّعت اليها، الى سحنتها عند النهار، لانتابك شعور بالاختناق، وأنت تتنفس السخام الذي أحال الجدران الى كتل سوداء متناثرة.
حين ينزل الليل فيها تغطّ في الظلام والنوم، إلا من أضواء مترددة، مهزولة، تتصاعد مع أبخرة الدخان المنبعث من فتيل يمتد كأفعى سوداء تتلوى في جوف زجاجة مخنوقة من الحلق بقطعة تمر متيبّسة.
كان الشيخ حيدر يباهي أبناء قبيلته بألمعيَّة عقل تلميذه النبيه، وسرعة تعلّمه، هما مؤشران منحاه الثقة للمغامرة في إقناعه لمواصلة الدراسة بعيدًا عن أهله، سيدخل المدينة لأول مرة، لا تندهش يا ولدي، يوصيه عمّه: سترى لأول مرة واسطة اسمها "سيارة"، في المدينة ناس "أفندية"، سوق عامرة بالبضائع والأضواء، وسيارات مدرسة مشيّدة بالآجر، تعلّم كيف تذهب إلى الحمّام!
اجتاز حسن اختبارًا سريعًا أهّله للدخول في الصف الثالث في مدرسة الشطرة الابتدائية، كانت البداية الأولى للتحدي في حياته، تجربة قاسية لصبيٍّ بلا بيت يأويه، ولا مورد يعينه، كان حسن يقاوم، فمن يُعينُ فتى مثقلاً بالأمل، وأباً يلملم دموعه، ليس سوى البكاء رأسمال حياته، "في احدى تشابيه معركة الطف كاد أن يقتل ابن عمّه فعلًا لأنّه يمثل دور الشمر في الواقعة".
كان بوسع الخريجين من تلك المدرسة التقدم لإكمال دراستهم في دار المعلمين الريفيَّة في بغداد بعد اجتياز المرحلة الابتدائيَّة. حسن يمتلك الشجاعة في الاقدام على هذه الخطوة التي شكّلت انعطافة مهمة في حياته، فالتحق بالدراسة فيها عام 1938.
حين نستعيد صورة الدار، تبدو لنا الآن كمشروع للعمل والأمل وتجاريب التربية الرصينة، لا يمكن فصلها عن تاريخ العراق السياسي، الريفيّة في حدود تاريخها، حضور متميز لجيل من التربويين الروّاد في العراق، ومع ان النظرة العابرة لا يمكن أن تستقصي أبعاد التجربة كلها، وأن تقع على حرارة الإخلاص التي تشعّ منها، إلا أنّها تستطيع أن تؤكد حقيقة واحدة وهي أن خريجي الدار أرادوا التعبير عنها بقدرٍ وافٍ من الوفاء في امتلاك المهارات، وقدرٍ أوفى من المعرفة في أصول التربية والتعليم.
وطالما نتساءل، من أين للطالب "حسن" كل هذا القدر من المعرفة؟ في اللغة والأدب، كيف تسنى له الانصراف الى الفن بكل طاقته وأجاد في الرسم، تعلّم فنون الخط العربي وجماليات اللون، كيف تمكّن من تحنيط الطيور والثعالب؟ وتفوّق في صنع المجسّمات من الجبس والخشب فنال الجوائز الاولى في المعارض التي تقام في مراكز الألوية "المحافظات". لولا أنه يمتلك الموهبة والاجتهاد ليمكّناه من تحقيق التفوق والتفرّد في صياغة تجربته.
لم تتوقف مهارات الفنان حسن عند هذا الحد، بل شيّد مسرحاً على طاولة كرة المنضدة في أقصى مدارس الريف، ووصل بفريق من الطلبة الحفاة الى الفوز بكأس البطولة في الكرة الطائرة.
ولعلنا حين نستذكر لمحات من حياة الفنان في خاطرة عابرة، فإنما لنضع أمام الدارسين تلك الحقيقة لتجربة لم يتعرّف عليها طلبة الفنون، ولعل فعل هذا الرسام ما أراده زمانه من اللوحة، أي الوصول إلى المعنى في ذاته، من دون أن يبذل جهدًا في البحث عن معنى العالم، واستقصاء أبعاده، لم يكن بمستطاعه يومذاك غير الاستدلال بالطبيعة في الوصول الى أجوبة مقنعة، فظل يعمل مفتونًا بسحر عالمها، أسير هوى مشاهدها الخلابة.
هكذا كان يرسم في حضرة الطبيعة، كما لو كان يؤدي من خلال ذلك واجب الامتثال لعشقه البصري الذي كان يعالج أو ينشغل في مشاهد ووجوه لتحليل ألوانها واستقصاء أبعادها. يختزن في ذاته طاقة متحدية، يجمع في ذوائبه ريشته، متأثرًا بتجارب حافظ الدروبي، وعطا صبري، وأكرم شكري، وعاصم حافظ.
عبر تلك المرافئ والفنارات والسواحل النائية، ظل الفنان يموّه بالألوان صور الأشياء ومشاهد الطبيعة، غير آبهٍ بصوت الحياة العميق، ولا بأمواجها التي تتلاطم وتتدفق بسخاء خارج حدود منزله، مأخوذًا بسحر وجه الكاتبة "مي زيادة". عمد الى رسم الطبيعة الصافية بوصفها حياة أليفة، وديعة، فيها إفصاح عن خصوصيات ما كان يحتفظ بها، بل غالبًا ما يهبها للأصدقاء، وتلك واحدة من الأسباب التي ضيّعت آثاره الفنيّة، ما تبقى منها لا يشكل للأسف الشديد موضوعًا لدراسة التجربة.
كان حسن علي ضمير مرحلة زمنيَّة ما زلنا نستمتع بأجوائها ونتلمس عفويتها وبساطتها، ولعل هذا الاختيار وحده، كان يمثل عهدًا لم يمنحه القدرة على مغادرة موقع يقينياته، واستمر على هذا النهج حتى نهاية عهد النظام الملكي في 14 تموز 1958. منذ تلك اللحظة الفارقة في تاريخ العراق المعاصر "مات" الفنان، وإلى الأبد وحضر السياسي، كان حسن مشروعاً فنياً توقف بإرادة الفنان نفسه، لم يمنحه جرعة الاستمرار، أخذته السياسة بعيدًا، لم تمنحه سوى عذابات السجون والخسارات، فاغتيلت الأحلام، وتمزقت الأماني بمخالب شرسة.