د. كريم شغيدل
إنَّ شخصية الشاعر المتمرّد ليست ظاهرة جديدة، فقد عرف العالم "بودلير، ورامبو، وأدغار ألن بو، وجان جنيه" وغيرهم، مثلما شهدت البيئة الثقافية العراقية حسًّا متمرّدًا في تجربتي الزهاوي التي طغى عليها الحسِّ الفلسفي، والرصافي الذي عانى شظف العيش أواخر حياته، على الرغم من كونه تدرّج وظيفيًا من معلّم إلى مدرّس ومفتش عام في المعارف، ثم انتخب عضوًا في مجلس (المبعوثان)، ثمّ لحقهما الجواهري، الذي مثَّل أنموذج الشعر الرسمي في قصائده وأنموذج المتمرّد في حياته وسلوكه اليومي، على أنَّ بعض قصائده شكَّلت خطابًا معارضًا صريحًا للسلطة، وهم ربما يشكِّلون امتدادًا لأبي نواس وبشّار وسواهما، وقد اتخذ عبد الأمير الحصيري من عروة بن الورد قناعًا أيديولوجيًا في قصيدته (مذكرات عروة بن الورد) التي يقول فيها: "وعدت أنا (عروة الورد) بين القفار/ يقيني وشاح التمرّد من عريها،/ من لهيب احتدام السلاطين".
شكَّلت ظاهرة حسين مردان أنموذجًا بما انطوت عليه من تجربة شعرية متمرّدة، فقد خرج على ثوابت الأدب الرسمي ابتداءً من كتابته لقصيدة النثر أو النثر المركز، فقد نبذ الوزن والقافية بوصفهما قيدين يحدَّان نزعته في التحرر مما هو سائد، ولم يكتفِ بذلك، بل شكَّلت النزعة الفوضوية طابعًا مميزًا لشعره، وكانت الإباحيّة سبيله للوصول إلى مبتغاه، لا سيما في مجموعته الجريئة التي صدرت مطلع السبعينيات (قصائد عارية) التي يقول فيها: "إبليس والكأس والماخور أصحابي/ نذرت للشبق المحموم أعصابي/ من كل ريّانة الثديين خامرة/ تجيد فهم الهوى بالظفر والناب".
إنَّ حقبة الخمسينيات التي عاصرها مردان كانت قد حفلت بأدبيات الفلسفة الوجودية، فكان الأنموذج الفرنسي ممثلًا بـ "جان بول سارتر ورفيقته سيمون دي بفوار وألبير كامو وجان جنيه وغيرهم" يشكل مصدر التأثر إلى جانب كولن ولسن، وما تداولته البيئة الثقافية من مؤلفات "نيتشه وهيجل وماركس وفرويد"، وما أشاعه سلامة موسى من أثر تبشيري بالفلسفات الغربية الحديثة نتيجة تأثره وتعاطيه الثقافي مع التيارات الفكرية الغربية بكل تناقضاتها وصراعاتها، وهكذا كان يعاني المثقف العراقي حالة التبعثر بين متناقضات الفكر والأدب لانشطار تجربته بين السياسي/ الأيدويلوجي والأدبي الجمالي، وقد غلبت السمة التوفيقيّة بين الولاء الحزبي من جهة وتطلعات التمرّد من جهة ثانية.
في ستينيات القرن المنصرم، وهي الحقبة التي تلقت الفلسفة الوجودية على نطاق أوسع، ظهرت (جماعة كركوك) التي احتفت بها مجلة (شعر 69) وهم مجموعة شبان قصاصون وشعراء ينحدرون من مكونات ثقافية واجتماعية ومن بينهم جان دمو الشاعر والمترجم الذي سيشكِّل لاحقًا عرابًا لمجموعة من الشعراء الصعاليك، وجان الذي هاجر من كركوك إلى بغداد لا أحد يعلم من أسرته بمصيره إلا في مطلع التسعينيات بعد رؤية صورته في إحدى الصحف المحلية، بعدها هاجر إلى أستراليا ليموت فيها، كان شتَّامًا سليط اللسان على الرغم من وداعته، وقد عاش حياة بوهيميَّة غير عابئ بشيءٍ سوى الخمرة الرخيصة في الحانات الشعبيَّة، إلى درجة أنَّه يؤرّخ بعض قصائد مجموعته الوحيدة (أسمال) بأسماء الحانات، وهي قصائد جمعها بعض أصدقائه من منشورات في صحف ومجلات قديمة ومخطوطات متناثرة، ومع عودة بعض شعراء الثمانينيات بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ثمّ زجّ العراق في معترك آخر هو غزو الكويت ثم تحريرها، وتسريح بعض الشعراء من الخدمة العسكرية، واستعار آثار الحصار الاقتصادي التفت حول جان دمو ثلّة من الشعراء، إذ شكَّل مع الشاعر كزار حنتوش ونصيف الناصري وآخرين مجموعة ناقمة متشرّدة، بينهم شعراء يفصلون بين حياة التشرّد ليلًا ونشر القصائد الرسميَّة نهارًا، لكنَّ جان على قلّة إنتاجه الأدبي كان يتخذ من التشرّد موقفًا حقيقيًا عميقًا، يتبعه نصيف الناصري الذي أطلق على نفسه لقب (الغجري) لأنَّه الأكثر إخلاصًا للشعر والأكثر غزارة، وكان على قدر كبير من الالتصاق بالتجربة، أي أنَّه عاش تجربة التمرّد والتشرّد وجسَّدها شعرًا وما يزال، ونرى أنَّ هذه الظاهرة كانت ذات طابع اجتماعي أكثر منها ظاهرة أدبيَّة، وقد ولدت في سياق ثقافي غلب عليه الاضطراب بسبب حالة العوز التي اجتاحت الحياة العراقية أثناء الحصار الاقتصادي، والجدير بالذكر أنَّ جان دمو كان مشروع شاعر مهم لو قدر له أن يهاجر أسوة بزملائه، أو أنَّه توفر على فرصة للاستقرار لنشر مشروعه الشعري فحين علم بأمر جمع قصائده "طلب مراجعة هذه القصائد لتجنّب الأخطاء.. وحين طالعها (زمجر) بألفاظه المعروفة.. وقرر إعادة كتابة بعض القصائد مع إعطائه فترة زمنيَّة لإنجاز مشروعه الشعري الذي يلحُّ عليه منذ زمن" كما جاء في مقدمة المجموعة، وما قصائده التي ضمتها مجموعته اليتيمة سوى التماعات لأكثر من حقبة منذ الستينيات وانتهاءَ بالتسعينيات، بحسب تواريخها، ومع ذلك تبدو كأنَّها سلسلة مترابطة، ومع ما كان يبدو عليه جان من تشتت ذهني ولا مبالاة إلا أنَّه كان يمتلك حساسية شعريّة نادرة في متابعة ما ينشر وإطلاق تشخيصات نقديّة شفاهية واعية، يقول جان في إحدى قصائده الثمانينية: "نهر اللحظات يتقرفص في حديقة الزهور/ الأفواه مجمّدة. الأفواه خط طويل من العذاب،/ اليأس. ما يشدّنا الى البعض، الى الهواء/ الى الاصفار، هو جسامة الماضي/ أن نضحك ثانية وثانية/ أن نستفز الحاكمين/ أن نرفض/ أن نخجل. ان نندم على أخطائنا/ أن نفرح أو نزهو بمآثرنا/ أن نموت/ أن نثور/ أن نقول لا للنظام/ ان نقول نعم للثورة". وكعادته يحرص جان على تدوين المكان والزمان اللذين كتبت فيهما القصيدة (الغابات/ الموصل- 1982) وتلك حقبة لم تكن لتسمح بإشاعة قصائد بهذه الحدة والتحريض المباشرين.