سطوة صورة الأب.. محاكمة الذات الرائية
ابتهال بليبل
“يقول رولان بارت :”ليست سوى ترنيمة متتالية من -انظروا ها هو”، وهي جملة “تشير إلى نوع من المواجهة, ولا تستطيع أن تخرج من هذه اللغة الإشارية”. إن فكرة الاحتفاظ بصورة لأبي جذابة وحزينة للغاية. تعيد لحظة واحدة من ذكرى تكررها الصورة بشكل فلسفي إلى ما لا نهاية كلما أشرع بالتحديق فيها، وبالوقت نفسه تصوغ انفعالات شخصية جديدة لم تكن عشتها.
ولعل هذه المواجهة تحدّدها مكانة صاحب الصورة نفسه عند المشاهد، وإذ كان على قيد الحياة أم لا. إنها تتعلق بشيء ما, ربما بالتناقض الذي بين ذاكرتنا المتحركة واستيعاب نقطة ثابتة. نقطة بصرية لها فعل السحر في الروح.
عادة، ما يميل الناس إلى الشعور بحزن غريب إذا ما عثروا على صور قديمة لأحبائهم سواء رحلوا أم لا، فهذا يفسد لحظات نسيانهم أو التصديق بإمكانية هذا النسيان. ويعيد لهم لحظات غرائبية عن الماضي.
من ناحية أخرى، ينظر الكثير من الناس إلى الصور القديمة وخاصة التي بالأسود والأبيض على أنها (من زمن جميل) على الرغم من عدم قدرتي لغاية اللحظة على استيعاب فكرة وجود( زمن جميل)! لكن يمكن للصورة معالجة مفارقة، وهي التذكر المتعمد, فضلاً عن تحريك حزمة من المشاعر التي ستبدو مألوفة وغير مألوفة في آن واحد، فهي تجبرك على التذكر بشيء مادي تراه بأم عينك.
وصور الآباء هي أكثر الصور شيوعاً عندما يتعلق الأمر بتقديس سلطة ما، سواء في صناديق مهملة بين الكراكيب أو ملتصقة على حيطان غرف استقبال الضيوف في بيوتنا. قبل أن يكون هناك آباء أو حتى صورهم، كانت هناك سلطة!!
فهناك ترابط مريب ومزدوج ما بين السلطة وصورة الأب, فهي تعكس الانغماس في الذات, إذ تكثف الصورة سلطتها وتحفز الذات. بوصفها مصدراً للتحول إلى مواقف ثورية. وعلى النقيض من كل ما ذكر بشأن “إمكانيتها في إرجاع ما تم محوه بالزمن والمسافة”، فإن صورة أبي هي الاستعارة والرمز اللذان لا يمثلان أبي بقدر ما يمثلاني أنا.
الصورة هنا إيماءات خيالية تغذي العقل بشحنات ضبابية صغيرة بين “واقع كان وواقع الآن”. من أجل رؤية صورة، أحتاج، وفقاً لكتاب “الخيال” لجان بول سارتر إلى إنكار مادية الصورة. قد ننظر إلى الصفات المادية لموضوع الصورة في موقف إدراكي أو، من خلال تغيير حالة وعينا ونفي العالم المادي، قد تكون لدينا صورة ناشئة في “موقف التصور”.
أما بالنسبة للفيلسوف موريس ميرلو بونتي، فإننا “لا نرى في الصور فقط، بل نادراً ما نرى كصور، ولا نرى أبداً على الرغم منها، بل دائماً معها ومن خلالها”.. ومن ثمّ فإن هذا يعني أن الصور تولد نظرات.
وعبر هذه النظرات يمكن تمييز الأشكال إما بوصفها إدراكاً يختلف عن إدراكنا المتعارف عن المادة، أو أنها نمذجة وصنيعة مغايرة، كما هو الحال في استعمال تسمية الصور. إن شيئاً أكثر من الإحساس يتم تداوله من خلال الصورة. ومن ثمّ فإن “الوهم” هو الأساس في تقييمها. إن النظرات هي الممر الذي يجر المعنى اتجاه حقيقة الإدراك.
وضع ويليام شكسبير في تراجيديته “الملك لير” إشارة عن قيمة التعبير بالكلمات عن المشاعر تجاه الأب، بينما كانت الأفعال وما زالت اللغز البسيط لمواكبة الحقيقة.
ولكن الأب لم يصبح رمزاً للحياة وللموت إلاّ في كتب الروايات الأدبية. ويشير إلى انتماء كل شيء يظهر علينا طيلة حياتنا إليه من دون أن نضطر إلى تشخيص هذا الأمر، وأنه ليس الشرير الذي يشبه الأساطير، بل الحضن القادر على إظهار إيماءات المودة.
إلاّ أن ما يحدث هو أن الآباء ينقلون أفكارهم وسلوكياتهم, بل وحيواتهم بأكملها لأبنائهم وكأننا نتوارثها, لقد عانى الفيلسوف سورين كيركيجارد طيلة حياته من الشعور بالذنب والكآبة، وقد ورث هذا الشعور من أبيه مايكل كيركيجارد.
إن هذا الانغلاق في المعنى على الأب جعل من صورته الباقية بعد رحيله من أكثر الأشياء التي تتطلب معالجة خيالية لمنظومة هائلة من الأفكار غير المشفرة. ومثله كمثل الواقع الذي ينتمي اليه آنذاك، فإن لودفيغ فيتغنشتاين يقول “عندما أنظر إلى الصورة، فإنها تخبرني بشيء ما، حتى إن لم أصدق (أتخيل) للحظة أن الأشخاص الذين أراهم فيها موجودون حقاً، أو أن هناك أشخاصاً كانوا في ذلك الموقف حقاً. ولكن لنفترض أنني سألت: ماذا تخبرني إذن؟ والإجابة أن ما تخبرني به الصورة هو نفسها. أي أنها تخبرني بشيء ما يتكون من بنيتها الخاصة، وخطوطها وألوانها الخاصة”.
ربما تكون صورة الأب الميت نقطة بداية جيدة لفهم قصة ما. الرجل الذي بملامح مبتسمة (على نحو غير معتاد) يحدّق بثبات فيك. في البداية يبدو الأمر وكأنه عناق، ولكن كلما نظرت إليه بتركيز أعمق، بدا الأمر وكأنه من جانب واحد، لقاء غريب وغير واضح, بل يُظهر لوهلة وكأن هناك ما يخفيه أو ليس لديه ما يخسره, ولكن ما يجعل هذه الصورة مميزة هو أنها تجعل الغياب المادي مرئياً من خلال تحويله إلى حضور أيقوني. فبدلاً من “الجسد المفقود للميت”. هناك جسد اصطناعي يحل محل “المكان الشاغر للمتوفى”. هذا الجسد الاصطناعي كما يراه الفيلسوف جان لوك نانسي هو “الجسد الوسيط (وليس مجرد جسد مادي)”.
ربما هذا الأمر لا يكون مرغوباً في نظر بعضهم، ولكن أحد الأدوار الحاسمة التي تؤديها صورة الأب هي أنها توفر هذا الملاذ. “في بعض النواحي، أقف تجاه وجه الصورة كما أقف تجاه وجه بشري. أستطيع دراسة تعبيره، وأن أتفاعل معه كما أتفاعل مع تعبير الوجه البشري. فالطفل يستطيع أن يتحدث إلى شخصيات الصور ويتعامل معهم كما يتعامل مع الدمى”, هكذا يعتقد لودفيغ فيتغنشتاين.
إن صورة الأب شيء متعدّد الأفكار والمعاني، فهي مرنة بما يكفي لتجسيد العودة، فضلاً عن معناها المختلف تماماً لشخص أضاع طريق عودته. إنها قادرة على التغيير بشكل جذري من الماضي إلى الحاضر. ومع ذلك، فإن هذا يتغير بشكل مخيف -ربما لهذا أنا محظوظة بما يكفي لأن لدي صورة واحدة فقط لأبي.
الصور خلال مشوار حياتي كانت تُلتقطُ للأحياء فقط ولا أتذكر– ماعدا الصور الإعلامية والخبرية - أن هناك صوراً تم التقاطها للموتى, كما كان يحدث في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث يتم تصوير الميت بطريقة يمكن أن تعطي انطباعاً بأنه ما يزال على قيد الحياة – والآن يمكنك أيضاً أن ترى انتشار صور لأشخاص وهم على فراش الموت بالسوشيل ميديا في الأعوام الأخيرة- أعلم أن هذه الصورة هي ذكرى مادية، لكنني أنظر أيضاً على أنها جاءت هنا كوسيلة “إعادة إنتاج مميزة” كما يرى ذلك الفيلسوف والتر بنيامين. فالتقاط الصور للأموات من الأحبة والاحتفاظ بها ما هي إلاّ محاولات للتأكيد على أن الميت ما يزال بيننا حاضراً، فهو جزء من حياتنا, وهو ما ذهبت إليه الناقدة والمخرجة والروائية سوزان سونتاغ وأكدت أن “الصور الفوتوغرافية لا تبدو وكأنها عبارات عن العالم بقدر ما هي أجزاء منه، صور مصغرة من الواقع يمكن لأي شخص صنعها أو اقتناؤها”.
الوقوف أمام صورة الأب، يشبه محاكمة عميقة للكثير من الأشياء التي نظن أنها غير موجودة، فالأب، صورة، أو جسداً.. هو بلاغة الحضور الطاغي الذي يخلل وجودنا دائما، لأننا سنشعر بالنقص إزاء حضوره.. نقص يكتمل ولا يتكمل بحسب لحظة الوعي التي تشكل هذا الحضور.