سرديَّة الرمز الشعري

ثقافة 2025/01/15
...



أشواق النعيمي 




يعتمد الروائي الإنكليزي ماكس بورتر في روايته “حزن يغطيه الريش “، الخطاب المباشر العفوي، وهو يتناوب من وجهات نظر ثلاثة أصوات هي ، الأولاد ، الأب ، الغراب، وهو أسلوب ميز أعمال بورتر في مزجه بين الشخصيات الإنسانية والشخصية الحيوانية أو الفنتازية المقتبسة من المثيولوجيا الشعبية أو الدينية، كما في روايته “لآني”، حين استعار شخصية “بابا تروثوت الميت”، وأسند لها دور البطولة إلى جانب الشخصيات الإنسانية . يذكر أن رواية “ حزن يغطيه الريش “ قد حازت على عدد من الجوائز، أهمها جائزة ديلان توماس الدولية ، وجائزة الجارديان للكتاب الأول .

 يقدم بورتر شخصياته الروائية بمستويات صوتية متفاوتة، إذ تستهل الرواية بمقطع شعري بصوت الأولاد يعد محاكاة لقصائد كتاب “ الغراب “ للشاعر الإنكليزي “ تيد هيوز “ الذي نشر للمرة الأولى عام 1970 . يعد هيوز الأب الروحي للرواية، إذ لا ينكر الروائي تأثره بقصائده عن الغراب ، فيرد ذكره في أكثر من موضع بوصفه شخصية أدبية واقعية ظلت تمارس سلطتها الأبوية على شخصيات الرواية، خاصة الأب الباحث الذي يعمل على تأليف كتاب عن الشاعر تيد هيوز وغرابه .

تحكي الرواية قصة أسرة مكونة من أب لولدين صغيرين، يفقد زوجته بحادث عرضي، فيعيش الثلاثة حالة حزن شديدة من الصعب تجاوزها، فيظهر الغراب الغامض ليقتات على الحزن، وكصديق ومعالج روحي لأفراد الأسرة، يحاول مساعدتهم على تخطي حالة الصدمة لوفاة الأم . وهو طائر بحجم الإنسان، يتحدث ويتصرف مثل البشر، تحمل شخصيته تناقضا بين الطيبة والقسوة، بين الذات الطبيعية للغراب وذاته المتحضرة. فهل الغراب شخصية موجودة فعلا؟ يشكك الغراب قارئ الرواية بحقيقة وسبب وجوده بقوله: “ كنت صديقا، عذرا مددا من السماء، مزحة، عرضا، نسجا من الخيال، عكازا، لعبة، شبحا، كمامة، محللا، وجليسة أطفال “، وينوه الأب بأن الغراب قد يكون حقيقة، وقد يكون وهما ذهنيا أو هلاوس اختلقها عقله للتعايش مع واقعه المأساوي . 

يرتبط الغراب في المثيولوجيا بالنبوءة والموت، فيمثل حلقة وصل بين عالم الأرواح والعالم المادي، أما الأساطير الأسكتلندية فتعده حاميا وعالما ومساعدا . في الرواية يعلم الغراب الأب كيف يفصل بين المكابرة والحكمة، بين الحداد والعيش في الماضي، أو تجاوزه والتطلع إلى المستقبل . المؤلف في هذا الموضع يستحضر غراب قصة ابني آدم الذي علم قابيل كيف يواري سوءة أخيه . يمزج خطاب الغراب بين النثر والفلسفة والكلام المشفر . يسمح المؤلف للا وعي الطائر بالتداعي مسترسلا في سرد نثري غير مترابط أقرب إلى الكولاج الصوري الجامع بين التاريخ والطبيعة والمشاعر الإنسانية تحت عنوان أحلام كرو السيئة . تعكس المشاعر المتناقضة في شخصية الغراب الصراع الذي يعتمل في دواخل الإنسان، وإحباطه وعجزه عن مواجهة الذات . أما سرد الأب والأولاد فكان أقرب إلى مذكرات تختلط فيها الحقيقة بالخيال . 

لا يُظهر السرد ملامح الشخصيات البشرية، ويكتفي بالأبعاد النفسية والاجتماعية، إذ لا يمكن التكهن بهيئة الأب أو ملامحه وكذلك الأولاد، لتركيز السرد على الانفعالات ومشاعر الحزن والغضب والصدمة والتفكير والتأمل وغيرها . ويرتبط البعد الاجتماعي بمكانة الأسرة وعلاقاتها الاجتماعية ومركز الأب الوظيفي . في حين تسلط عدسة السرد على الغراب لاقتناص سمات شخصيته المركبة التي تجمع بين خصائص الطائر والإنسان، فيظهر بهيئة غراب عملاق أسود الريش، بعينين سوداوين نفاثتين ورائحة نتنة، بطول رجل وعقل فيلسوف ولسان شاعر، يعبر عن أحاسيسه المختلطة كطائر يعاني من اضطهاد البشر وقسوتهم، وخوفه الدائم من الإنسان الذي يتجسد كأحلام مزعجة. فجاء توظيفه بوصفه شخصية حيوانية أليفة تمثل جانب الخير، لتسليط الضوء على السلوك البشري تجاه الحيوانات عامة والغراب بشكل خاص . 

هل اسُتحضر غراب تيد هيوز إلى الرواية بوصفه رمزا شعريا ؟ من يقرأ قصيدة الغراب للشاعر الفرنسي إدغار آلان بو، التي نشرت عام 1845 سيغير رأيه . غراب إدغار آلان بو طائر متحدث حكيم، ظهر فجأة في حياة عاشق محطم ليساعده على تجاوز حزنه على فراق حبيبته. يتجلى التشابه بين غراب إدغار وغراب الرواية، في السمة الرمزية والوظيفية والشكلية، إذ تشترك الرواية مع القصيدة في الفكرة والاستهلال وزمن وطريقة دخول الغراب إلى المنزل، وظهوره الغامض في حياة الشخص المستهدف بالإنقاذ، بعد أن فقد الثقة بمن حوله فاستسلم للغراب، وكذلك فعل الأب في الرواية .

في النهاية، فإن الغراب هو الجانب الرومانسي والعقلاني من شخصية الأب الذي يغلق على حزنه باب غرفته ليمارس دور جليسة الأولاد، ويشاركهم الطعام والرسم واللعب والنوم في فراشهم، للتعويض عن غياب الأم في حياتهم .. يقول السارد على لسان الأولاد في مستهل الرواية :

ثمة ريشة على وسادتي 

الوسائد مصنوعة من الريش، اذهب إلى النوم

إنها ريشة سوداء كبيرة 

تعال ونم في فراشي 

هناك ريشة على وسادتك أيضا 

فلنترك الريش في مكانه، ولننم على الأرض .