المسرحُ وحرّاسُ المعبد

ثقافة 2025/01/15
...


التبريرُ هو عمليةٌ ذهنيةٌ تشوّهُ الواقعَ وتُضفي هالةً برّاقةً على موقفٍ زائفٍ أو فعلٍ قد يكونُ مَعيباً في أصلِه. إنّه سلاحٌ فكريٌّ يُستخدمُ لتجميلِ الخطأ وتبديلِ العيوبِ بمزايا مُختَلَقة. هو آليةٌ لإعادةِ ترتيبِ الحقائقِ بحيث يبدو الخطأُ صواباً والضررُ ضرورياً. يزدهرُ التبريرُ بغيابِ النقدِ الصريح، فيُصطفى الشّائعُ على المغمورِ بصرفِ النظرِ عن المستوى. وبفعلِ طبيعتهِ المراوِغة، يقومُ بتحريفِ الحقيقةِ بشكلٍ يُغري بتصديقِه والإيمانِ به.

دعماً للحجةِ، يقومُ حرّاسُ المعبدِ بخلقِ درعٍ حولَ الكاتبِ أو العملِ الفنيّ دون إخضاعهِ للمراجعة، لأنهم ينطلقونَ من الموقفِ قبل التشخيص، فكلُّ قراءةٍ هي قراءةٌ انتقائيةٌ تُرّكزُ على الجوانبِ التي تتوافقُ مع الرؤيةِ المسبقةِ وتتجاهلُ إمكانيةَ وقوعِ الآلهةِ في أي هفوةٍ أو زلل. هؤلاءِ الحرّاسُ يُعظّمونَ القداسةَ العمياءَ، مدفوعينَ بولاءٍ غيرِ عقلانيّ كمن يُضيءُ المشاعلَ تحتَ الشمس، ظنّاً أن نورَها يحتاجُ إلى عونِه.

كأداةٍ للتعميةِ، يُغلِقُ تلميعُ البيانِ البابَ أمامَ البصيرةِ المستنيرة. فبحكمِ المنطق: أخطرُ أنواعِ الزّيفِ هو الصّادرُ من المتزلفينَ الذين يتقنونَ فنونَ تلميعِ المرايا. على نحوٍ بارعٍ، يلتفُّ التبريرُ حول ثغراتِ المنطقِ كي يبني هياكلَ محكَمةً في الظاهر. بإمكانِ أصحابِ القدراتِ اللغويةِ الفائقةِ، إذن، أن يصوّروا الحقّ باطلاً والباطلَ حقّاً تبعاً لبواعثِهم من الهوى والرّغبة والمصلحةِ المستهدَفة.

هؤلاءِ المتحيزونَ عاطفياً، والنقادُ السطحيونَ الذين يتجنبونَ المخاطرةَ في النقد، والذين يفضلونَ مداراةَ السمعةِ الأكاديميةِ من خلال تمجيدِ الكاتبِ الكبير، وأولئك الذين يخشونَ أن يؤديَ نقدُهُ إلى زعزعةِ وتهديدِ الاستقرارِ الثقافيّ، يعانونَ من عقمٍ فكريٍّ يجعلُهم يكرّرونَ آلهتَهم، كما لو أنَّ الصحراءَ تزرعُ أصنامَ التمرِ لتلتهمَها حين يجوعُ الخيال.

بالفبركةِ، يتبنى التبريرُ مواقفَ اعتناقيةً تُحبطُ التغييرَ وتفتحُ الطريقَ أمام الركودِ الفكريّ. ففي غيابِ النقد، قد يحتلُّ الفنانُ أو الكاتبُ مكانةً ثابتة، وبالتالي يظلّ متربعاً على القمّةِ فتنعدمُ فُرَصُ التمرّدِ والاختلاف. هذا السلوكُ الأخلاقيُّ المشكوكُ فيه يُديمُ “التغذيةَ الارتجاعيةَ” بين الزمرةِ الأدبيةِ والمجتمعِ العامّ ويكرّسُ كلَّ منهما سطحيةَ الآخر. يغدو التقديسُ وغيابُ النقدِ ملاذاً نفسياً في وجهِ الخوفِ والمجهول. من الدّارجِ، حينها، تجويزُ الأخطاءِ وتجاهلُ العيوب وإتلافُ الذوقِ ومعاييرِ الجودة، فتفرِزُ تلك الديناميةُ أجيالاً تفتقرُ إلى القدرةِ على التمييزِ بين البلاغةِ والابتذال.

الفعلُ السلبيُّ لحراسِ المعبدِ وفرسانِ الهيكلِ يشجّعُ ثقافةَ الاتباعِ، بلا حوارٍ أو نقاش. فالآلهةُ لن تهبطَ من عليائها، وكلُّ أفعالِها لاحقاً ستظلُّ مُشبعةً بسلطانٍ سماويّ، وما على الوسطِ الثقافيّ إلا أن يُراكمَ الطاعةَ والولاءَ تحتَ أقدامِها، عبرَ طقوسٍ نفاقيةٍ في مسعىً سهلٍ لا يتطلبُ أكثرَ من ثقافةِ الامتثال.

إنَّ هذا الإرهابَ الفكريَّ والانتهازيةَ لا يُثمرانِ سوى إبقاءِ الماءِ راكداً، عبر تجنّبِ العواقبِ التي يُحدثُها إلقاءُ حجرٍ في البركة. تتجمعُ الايقوناتُ المبَّجَلَةُ هذهِ مثل الشوائبِ التي تعيقُ الماءَ عن التدّفق في جدولِ الإبداع وبمرورِ الوقتِ ستسدُّهُ تماماً. بناءً على ذلك، يُحتفى فقط بالأنماطِ السائدةِ والكتّابِ المُعتَرفِ بهم إعلامياً دون إعطاءِ فرصةٍ للبذورِ الجديدةِ أو التجاربِ الأدبيةِ الواقعةِ تحت ظِلالِ الشجرِ كي تنالَ نصيبَها من الضّوء.

ولحرّاسِ المعبدِ أسبابُهم. بتقديمِ الكاتبِ أعمالاً مهمةً، يدخلُ إلى حضيرةِ الإعجابِ المفرِط. بعد ذلك، يرى بعضُهم أنَّ كلَّ ما سيكتبهُ هو امتدادٌ لتلك العبقرية، وبالتالي يصعبُ انتقادُه. ثمّ ينتقلُ الأديبُ إلى قائمةِ التاريخِ كرمزٍ أدبيّ، يخلقُ حولهُ هالةً من النقاءِ، يتكلّسُ في منحوتةٍ جبسيةٍ، وتصبحُ المؤاخذةُ أو التساؤلُ وكأنَّها تحطيمٌ لجزءٍ من الهويةِ الثقافيةِ أو التراثِ الفكريّ. وإذا أضيفَ إلى ذلك النفوذُ الأدبيّ والشخصيّ كأن يديرَ الكاتبُ شبكاتٍ اجتماعيةً وأكاديميةً وماليةً واسعة، يستحيلُ بعدها على النقّادِ أو الباحثينَ المساسُ بهِ خشيةَ التأثيرِ على مكانتِهم المهنيةِ أو الاجتماعية.

طحالبُ المجاملاتِ وأدغالُ التصفيقِ المجانيّ ترتدّ على ذاتِها، فحرّاسُ المعبدِ يُعرّضونَ ما يحرسونهُ إلى الانتهاكِ في الوقتِ الذي يظنّونَ أنهم يحمونَهُ من الانتهاك. وبغيابِ العينِ الفاحصةِ، سيستمرُّ المعبدُ في إنتاجِ آلهةٍ منفصلةٍ عن الحياة، ولا يكتشفُ، حينها، أنّهُ يتوّغلُ في الآنيةِ والموتِ الحتميّ؛ إلا بعدَ أن يوجدَ تماماً في مركزِ الموتِ الحتميّ. 

سبيلٌ واحدٌ يُبعدُ المرءَ عن هذا المصير: إيمانُهُ الرّاسخُ بأنَّ الأدبَ فعلٌ إنسانيّ، وأنَّ كلَّ فعلٍ إنسانيّ يظلُّ ناقصاً، وإنْ بدا مكتملاً. إنهُ سبيلٌ يتّسمُ بشيءٍ من الرّواقية (بضبطِ النفسِ عن الانجرافِ وراءَ الّلذةِ أو الاستسلامِ للخوفِ من الألم)، يُحاول فيهِ المرءُ أن يتعلّمَ من إشراقاتِ النيرفانا (حالةٌ من التحررِ التامِ، سواء من الحزنِ أو من السّعادة)، تلك الفعّاليةُ التي تُلامسُ الكمالَ دون أن تدّعيهِ أو تحتكرَهُ بشكلٍ كامل..

فعلى العكسِ من التبرير، يفتحُ النقدُ المتوازنُ آفاقاً جديدةً للوعي كي تتعافى الأعرافُ الأدبيةُ وإنْ باجتثاثِ بعضِ البراعمِ المريضة. حتى لو يُعزَلُ أو يُحارَب، هذا النقدُ كافرٌ بالأربابِ؛ ومحطِّمٌ للأصنامِ بناءً على ما يمتلكُ من ترياقٍ مُرٍّ ومعرفةٍ عميقةٍ، وهو يَعلَمُ أنّ التهويلَ والانسياقَ وراءَ التيارِ يُنعشانِ الأورامَ الخبيثةَ، ويُحيلانِ المعرفةَ إلى زيتٍ في ماكينةِ البروباغندا الجماعيةِ الصدئة.

ولتقليلِ الضّررِ الناجمِ عن أفعالِ حرّاسِ المعبدِ، تلجأُ الاستقامةُ إلى معالجةِ الأمورِ برويّةٍ وهدوء. تسعى إلى الصدقِ مع الذاتِ قدرَ المستطاع. وكمنِ يمشي على حبلٍ، تحاولُ الموضوعيةُ التماسكَ، تجاهدُ كي لا تنحني أمامَ الإغراءِ، وتحافظُ على مكانتِها بين التحليلِ العقلاني واحترامِ الذات. بذلك، تُبعدُ التطرّفَ، الذي يطغى على المشهدِ، سواء بالتأييدِ أو المناهضةِ، وتنشرُ قليلاً من الضوءِ لئلا تستحيلَ الغابةُ سوداءَ كلّها.

بالتزلفِ، يصبحُ الجمالُ مُجرّدَ قشرةٍ تُخفي وراءها فراغاً مخيفاً، يتآكلُ فيهِ الإبداعُ تحت وطأةِ الأضواءِ المغشوشة. ومهما بلغَ تماسكُ أيّ هَرَمٍ، فإنَّ الخرابَ يُسرِعُ الخُطى في اللحظةِ نفسِها التي يتّعجلُ فيها حرّاسُ المعبدِ لإيقادِ مجامرِ البخور.