في التحدي والاستجابة

ثقافة 2025/01/15
...

حازم رعد




حينما نروم الحديث عن معنى التحديات في الواقع فهي كثيرة جداً, فالإنسان يواجه في حياته ضروباً من الصعوبات والمشكلات والهزائم والخسارات والانتصارات وكل ذلك يندرج في التحديات التي يلقاها الإنسان في حياته ويكون له سلوك في مقابلها.

فلا يقف الإنسان مكتوف الأيدي تجاه التحديات, إذ لابد أن يكون له ما نسميه استجابة من نوع ما تعبر عن حالته ووضعيته وفهمه لذلك التحدي والسلوك الطارئ “التحدي والاستجابة عنوان النظرية التي أسسها المفكر الإنجليزي أرنولد توينبي” والتي من خلالها حاول فهم سلوكيات المجتمع الإنساني واستجاباته حيال ما يواجهه من ممارسات وأفعال, وبعبارة أوضح إزاء ما يلاقيه من تحديات. كل شكل من أشكال التحدي تلزمه استجابة من نوع ما، فإن لكل تحدٍ نوعاً من الاستجابة, إذ التحديات التي تواجه الإنسان في مختلف ضروب حياته كثيرة, ويلزم من ذلك استجابات كثيرة أيضاً وليس بالضرورة أن تكون الاستجابات متناسبة مع التحديات, بل قد تكون معاكسة لها وأشد وقعاً وتأثيراً ومما هو ثابت أن لكل فعل ردة فعل توازيه في القوة وتعاكسه في الاتجاه.  فردود الأفعال ليست دائماً تأخذ شكلاً واحداً, أو هي على وتيرة واحدة، فقد يكون الجزاء من سنخ العمل كما يقال في الفلسفة الإسلامية، أو يكون أكبر وقعاً وأشد تأثيراً وبحسب مستويات الضغط التي تحفِّزه وتدفع باتجاه الانفجار.  

يتحدث “فريديرك لينين” عما يسميه “الحالة الثورية” وهي فرضيته التي يشرح فيها مراحل وآليات تشكل واندلاع الثورات ضد الأنظمة والسلطة، ويقصد بالحالة الثورية موجات من ردود الأفعال المتحمسة التي تتكون نتيجة الاضطهاد الاستثنائي.. اضطهاد فوق ما هو متوقع يسبب حالة من الاستياء العام تدفع باتجاه الثورة على الواقع في محاولة لتغييره بشكل جذري بغض النظر عما قد يتحصل من “مساوئ أو سلوكيات سلبية” ترافق ذلك، فقد قلنا إن ردود الأفعال إن حصلت فلن يتكهَّن أحد بالمسارات التي ستأخذها, أو أن يتوقع إنسان مدى شدتها وتأثيرها في البيئات التي تحصل فيها. 

حينما خرج الشعب الفرنسي في ثورته المجيدة ضد الملكية كانت هناك بعض الرمزيات التي تمظهرت عبر سلوكهم الجماعي الذي قاموا به, أو مدى الاستياء والضغط الذي كانوا قد تعرضوا له طيلة سنوات من الفقر والحرمان وقمع الحريات والاستئثار بالسلطة. فمثلاً سجن الباستيل الذي لم يكن عدد سجنائه حينها كثيراً وجهت أنظارهم إليه وفعلاً اقتحموه وذلك تعبير عن إرادة فكِّ القيود التي كبَّلت حريتهم وشلَّت حركة التفكير والتعبير وإبداء الرأي عندهم آنذاك. كان مما صنعه الثوار إنهم هجموا على رموز السلطة وقتلوهم عبر مشهد دموي فادح لكنهم قاموا به نتيجة الاضطهاد الكثيف الذي أدى إلى فورة وحالة من الهيجان أدت إلى تلك الأفعال “إن كثرة الضغط والقمع والهتك وعدم الاعتراف والإهانات المستمرة كلها تؤدي إلى الانفجار” وأيضاً مما اصطنعه الناس الذي تعرضوا للظلم والاضطهاد من الذين تمكنوا من الوصول إلى السلطة أنهم قاموا بردَّات فعل هستيرية, حيث أثرت فيها سنوات القمع والحرمان, وعقد المعارضة وأزمات نفسية أخرى إلى اعتبار أي نقد لهم بمثابة إرادة سلب السلطة عنهم وأخذها منهم. وهنا حصلت فدائح كبيرة لخَّصتها الظاهرة “الروبسبيرية” التي أول ما فعلت هو أنها قضت على رجال الثورة ومناضليها أنفسهم والتي كانت المقصلة شاهداً حياً ومؤلماً على فترات حكم أولئك الثوار، وقد تحققت هناك مقولة “إن الثورة تأكل رجالها”.  

وفي وجه الناس لن تقف قوة مهما كانت مدجَّجة بالسلاح والعدَّة والعدد “فإنه إذا فقد النظام حاضنته الاجتماعية وتعاطف المحيط الاجتماعي سقط لا محالة” لأنه بصريح العبارة قد فقد تلك الشرعية الشعبية التي كانت ممنوحة له فيما سبق. 

إن ردَّات الفعل “الاستجابة” التي تولِّدها الأفعال والتحديات في الواقع الاجتماعي غير معلومة الحجم والتأثير والامتدادات التي قد تصل إليها، فقد تكون هستيرية وقد يسيطر عليها من رموز تدير دفَّتها “هذا إن كان قد بقي لبعض الرموز شأن في قلوب الناس” فقد يتلاشى كل شيء بفعل الهيجان والتدخلات الجانبية والدفع باتجاه مصالح جهات من هنا وهناك. إن التوزيع غير المتكافئ للقوة والسلطة أهم أساليب الهيمنة التي تقوم بها الأنظمة الكبرى المسيطرة للحفاظ على هيمنتها وسيطرتها على القرار في تلكم الجغرافيات المستهدفة التي تعمها الفوضى والضعف والإرباك نتيجة التغييرات الحاصلة.